فضلت اليوم في هذا الفضاء أن أطبع على طريقتي وأسوق لافتتاحية صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية واسعة الانتشار، التي كتبت عن الشعب الفلسطيني ما لا تجرؤ على كتابته صحف عربية تابعة لأنظمة مطبعة، بل معادية للشعب الفلسطيني، تخاف على عروشها من غضب أمريكا وإسرائيل، حيث صنفت الجريدة الشعب الفلسطيني كأحسن شعوب الأرض في الدفاع عن أرضه وشرفه وحقوقه المشروعة على مدى 70 عاماً من الاحتلال، وأكدت أنهم فعلاً أصحاب حق لا يتنازلون عنه، خاصة بعد الذي فعلته المقاومة الفلسطينية مؤخراً في الحرب المفروضة على غزة، وما أبداه الشعب الفلسطيني من صبر وثبات وإصرار واستعداد للتضحية بكل ما يملك، وكأنه رجل واحد مثلما كتب صاحب الافتتاحية:
“أثناء حربنا الأخيرة على غزة، وإطلاق صواريخ حماس علينا، كلفتنا طلعات الطائرات وعمليات تزويد الآليات الحربية بالوقود، وصواريخ الباتريوت التي أطلقناها، ما يعادل 300 مليون دولار يومياً، ناهيك عن الخسائر في الأرواح والممتلكات، وتدمير البيوت والمحال التجارية والسيارات، وتعطل الحركة التجارية والصناعية وهبوط أسهم البورصة واضطراب الرحلات الجوية وخطوط القطارات، إضافة إلى تكلفة إطعام الهاربين إلى الملاجئ بفعل صواريخ المقاومة الفلسطينية التي أصبحت هي من تقرر متى تبدأ وتنتهي الحرب وليس إسرائيل، بعد أن كنا نظن أنهم فقدوا قوتهم وتوازنهم، وتعلقهم بأرضهم ووطنهم”.
كاتب المقال أضاف: “هذا نذير شؤم على دولة إسرائيل التي تأكد سياسيوها من أن حساباتهم كانت كلها مغلوطة، وسياساتهم كانت تحتاج لأفق أبعد مما فكروا فيه. إنهم فعلاً أصحاب الأرض، ومَن غير أصحاب الأرض يدافع عنها بنفسه وماله وأولاده، وبهذه الشراسة والكبرياء والتحدي”.
وقال أيضاً: “أنا كيهودي أتحدى أن تأتي دولة إسرائيل كلها بهذا الشعور بالانتماء، وهذا التجذر والتمسك بالأرض بعد أن أذقناهم ويلاتنا من قتل وسجن وحصار وفصل، فأغرقناهم بالمخدرات، وأغرقنا أفكارهم بخزعبلات تبعدهم عن دينهم كالتحرر والإلحاد والشك.. لكن الغريب في الأمر أن يكون أحدهم مدمن مخدرات ولكنه يهب دفاعاً عن أرضه وأقصاه، ولسانه يصرخ: الله أكبر”.
“جيوش دول بكامل عتادها لم تجرؤ على ما فعلته المقاومة الفلسطينية في أيام معدودات، فقد سقط القناع عن الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر، فأصبح يقتل ويختطف، وذاقت تل أبيب طعم صواريخ المقاومة، لذلك علينا أن نتخلى عن حلمنا الزائف بدولة إسرائيل الكبرى، ونكون للفلسطينيين دولة جارة نسالمها وتسالمنا، حتى يطول عمر بقائنا على هذه الأرض بضع سنين أخرى، لأنه سيأتي اليوم الذي ندفع فيه الفاتورة ولو بعد ألف عام، هذا إذا استطعنا أن نستمر لـ10 أعوام قادمة كدولة يهودية، فالفلسطيني سيبعث من جديد، ومن جديد ومن جديد، وسيأتي يوماً ممتطياً فرسه نحو تل أبيب”.
هذا المقال لم يكتبه صحفي فلسطيني، بل يهودي في صحيفة إسرائيلية مشهورة تنتمي إلى الخط السياسي اليساري المناهض للاحتلال والعنف، والمؤيد لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، بشكل أكبر من العرب ذاتهم الذين لجؤوا إلى التطبيع عكس إرادة شعوبهم وتواطؤوا مع إسرائيل لخنق المقاومة والتستر على جرائم المحتل ضد شعب يؤكد كل يوم أنه من أشرس الشعوب وأكثرها انتماءً لأرضها، يلقن العالم كل يوم دروساً في الصبر والصمود والكفاح، أما الصحفي والكاتب ورجل السياسة في العديد من وسائل الإعلام العربية، فلا يزال يكتب عن السلام المزعوم والتعايش والتعاون الاستراتيجي مع إسرائيل، ويتمنى استسلام المقاومة، بل يتجنب الحديث عن العدوان والتقتيل والتهجير وسلب المزيد من الأراضي، دون إدراك بأن حلم إسرائيل الكبرى يمتد من الفرات إلى النيل، ولا يقتصر فقط على الأراضي الفلسطينية.
صحيح أن الإقرار بعظمة شعبنا الفلسطيني لا يحتاج إلى شهادة كاتب أو صحفي يهودي، لكن ما كتبه اعتراف صريح يبعث فينا الروح ويجدد الأمل، ويغذي الشكوك في الأوساط الإسرائيلية بالمقابل، لكن على أنظمتنا أن تدرك بأن الشعب الفلسطيني يدافع عن الأمة كلها، ويشغل اليمين المتطرف عن تحقيق حلم إسرائيل بالسيطرة على أراضٍ عربية أخرى مثلما سيطر على عقول ونفوس المطبعين والمتخاذلين، لذلك فهي مطالبة بدعم الشعب الفلسطيني العظيم، وإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل التي قامت أصلاً على أساس ضمان حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وليس لأجل عيون أمريكا وإسرائيل.
حفيظ دراجي
عربي بوست 16 مايو 2023