تخلفنا الفكري والثقافي والحضاري وتراجع القيم والأخلاق في الأوساط الشبانية، يضاف اليه تلك التراكمات النفسية والاجتماعية التي يعيشها الكثير من شبابنا العاشق للكرة الأوروبية، كلها عوامل أدت بنا الى درجة الحاق الضرر ببعضنا البعض بسبب تعصبنا الشديد تجاه لاعبين أجانب ونواد أوروبية لا علاقة لنا بهم إلا المشاهدة، المتعة التي تمنحها الكرة الأوروبية لعشاقها في العالم العربي الحق بها بعض شبابنا ضررا ودرجة كبيرة من الحقد والكراهية تجاه بعضهم البعض، وصوب المحللين والمعلقين فيعتبرونهم فأل خير أو شر حسب النتيجة، ويتهمونهم بالتحيز لهذا النادي الأوربي أو ذاك، ويصل الأمر الى حد التهكم والإساءة اليهم عندما ينهزم فريقهم المفضل!
التعليقات التي تصلنا نحن معشر المعلقين والمحللين وتتهمنا بالتحيز مثلا للريال تارة والبارسا تارة أخرى، تستفزنا وتثير في نفوسنا كثيرا من الاشمئزاز، وتجعلنا نتحسر ونشفق على شباب يدافع عن فرق أوروبية أكثر من دفاعه عن نفسه ومبادئه ووطنه وحتى على ناديه المحلي، فتجده يتهكم ويسب ويشتم لأن المعلق الفلاني تفاعل بتسجيل هدف ضد فريقه (الأوربي) المفضل أو لأن المحلل انتقد أداء نجمه بسبب تراجع عطائه أثناء اللقاء!
بعض المناصرين والمشجعين العرب للنوادي الأوروبية وقعوا رهائن لممارستهم الحاقدة والكارهة للطرف الأخر، وأبانوا عن تعصب أكبر من تعصب الأوروبيين ذاتهم لنوادي مدينتهم وبلدهم. في أوروبا عاشق الكرة يعود لممارسة طقوسه وأعماله بصفة عادية في اليوم الموالي للمباراة بل بعد نهايتها، بينما يتحول عندنا مناصر الريال الى مدريدي أكثر من المدريديين ويصبح مناصر البارسا برشلونيا أكثر من الكاتالان أنفسهم ولا ينام ولا يأكل لأيام، ولا يسلم من تذمره لا معلق المباراة ولا محللها ولا حتى الحكم وكأن الأمر يعنيه شخصيا بصفة مباشرة، أو كأن الفوز والخسارة هما مسألة حياة أو موت!
صحيح أن الكرة الأوروبية تمنح متعة فريدة من نوعها لا توجد عندنا لكن التعلق بها والتعصب لها ومعاداة كل من يختلف معنا في عشقها بالشكل الذي يفعله شبابنا فيه من الغرابة ما يدعو الى دراسة الحالة والعمل على إيجاد حلول لظاهرة غريبة تؤثر على تنشئة الأجيال الصاعدة على الحب المتبادل والعشق النظيف لكل ما هو جميل وممتع لكن بدون مغالاة وبدون تعصب وحقد وكراهية تجاه الآخر، خاصة وأننا لسنا اسبان ولا طليان ولا إنكليز، بل هؤلاء وأولئك هم أوروبيون ومن حقهم التعصب لبعضهم، ومع ذلك لا يفعلون، بل يفرحون بهدوء ويغضبون بأدب واحترام تجاه بعضهم البعض وتجاه اللاعبين والمدربين والمسيرين وحتى المعلقين والإعلاميين.
صحيح أيضا أن الكثير من عشاق الكرة في عالمنا العربي يعيشون الفراغ والحرمان والنقص في وسائل الترفيه، ولا يجدون القدوة التي يعتزون ويفتخرون بها في حياتهم، لكن حتى الكثير من الشبان الأوروبيين يعانون الأزمات النفسية والأخلاقية والاجتماعية، ولا يقودهم عشقهم لنواديهم الى الحقد على مناصر الفريق الأخر، ولا الحقد على المحللين والمعلقين والإعلاميين مثلما يحدث عندنا!
ما يثار عندنا في وسائل التواصل الاجتماعي بين الشبان، وفي بعض البرامج التلفزيونية بين الإعلاميين والمحللين كشف كثيرا من الممارسات والاختلالات والعُقد والأمراض التي يعاني منها الكثير بسبب سوء استعمال هذه الوسائط، وتخلي بعض صناع البرامج عن دورهم في التوعية والترفيه وممارسة التحليل الكروي الفني والتقني البعيد عن التهريج والتهييج واثارة المشاعر والعواطف!!
لقد بلغ الأمر درجة من الخطورة على النفوس ما يستدعي استفاقة الضمائر والعقول وإدراك الوعي الجماعي للأولياء والمسؤولين بأن الكرة عند الأوربيين مجرد لعبة للمتعة والترفيه وأحيانا لإثبات التفوق الرياضي، ويجب أن تكون الكرة الأوروبية والنادي الذي يشجعه أولادنا مجرد ميل لمتعة ظرفية لهذا النادي أو غيره وليس سببا للذوبان في كيانات لا يمكنها تقبل هكذا تعصب. أما اذا لم نقدر على فعل ذلك علينا أن نتوقف عن متابعة متعة كرة القدم الأوروبية وعدم تلطيخها بأفكارنا وممارساتنا، واذا لم نقدر على تطوير شروط ممارسة لعبة كرة القدم فعلينا أن نتوقف عن ممارستها أو نجعل منها مجرد هواية دون إعطائها الأهمية الاجتماعية التي تقودنا الى تضييع الجهد والمال دون أدنى فوائد… وعليه تستحق أن يكون تعصبنا مبصرا لا أعمى.
نشر في القدس العربي بتاريخ 01 – 02 – 2018