كيف قسّم الكلاسيكو عالمنا العربي!
ما يصطلح على تسميته كرويا بكلاسيكو الأرض الذي يتكرر مرتين على الأقل كل موسم كروي بين الريال والبارسا، يستقطب اهتمام كل هواة الكرة في العالم بالنظر لما يحمله من متعة وفرجة واثارة بين فريقين عريقين وجماهير عاشقة تنتظر الموعد بشغف وتتفاعل معه بشكل حضاري في اسبانيا لا يتعدى حدود اللعبة والآداب العامة وأخلاقيات التشجيع بالرغم من كل ما يحيط بالموعد من تنافس كروي وتراكمات تاريخية، سياسية واجتماعية بين الكتالانيين والمدريديين.
في اسبانيا يحل الكلاسيكو وينتهي في سلام يتفاعل فيه اللاعبون والمدربون وتعلو أصوات الجماهير في المدرجات والساحات العمومية، ويزداد التفاعل في وسائط التواصل الاجتماعي ويكتب عنه الاعلام ويتكلم، لكن الحياة تستمر في اليوم التالي لدى الخاسر والرابح وكأن شيئا لم يكن، لأن الكل يعي ويدرك بأنها مجرد مباراة كروية وليست حربا.
آخر كلاسيكو بين الغريمين جاء في ظروف سياسية واجتماعية تميزت بحراك كبير بين دعاة انفصال مقاطعة كتالونيا عن اسبانيا ودعاة الوحدة الوطنية على اختلاف الثقافات واللغات، وانتهى بفوز الضيف برشلونة على الريال بالثلاثة في مدريد، وكانت نتيجة كارثية على الريال من الناحية الفنية، لكن مقاطعة كتالونيا لم تنفصل عن اسبانيا، ولم نسمع عن تجاوزات في أوساط الجماهير، ولم تحدث أعمال شغب في المدرجات أو في شوارع مدريد، ولم يقل من منصبه المدرب أو رئيس النادي. أما عندنا نحن العرب فان الدنيا قامت ولم تقعد قبل وأثناء وبعد المباراة وانقسمنا الى مدريديين وكتالانيين أكثر من الاسبان في حد ذاتهم، وبلغ التعصب كالمتعاد درجة كبيرة وكأن الأمر يتعلق بنوادينا ومنتخباتنا، أو يتعلق بوطننا وشرفنا ومعتقدنا!! لقد وصل الأمر في بعض المرات الى حد الاقتتال وزهق الأرواح بين أبناء البلد الواحد من أجل البارسا أو الريال، وبلغ الأمر درجة كبيرة من التذمر في أوساط شبابنا لدرجة أدهشت الاسبان والأوروبيين الذين لم يفهموا هذا الاحتقان والتعصب الكبيرين في عالمنا العربي لفريقين اسبانيين.
الاسبان يعتبرون الكلاسيكو عرسا كرويا وحدثا رياضيا للمتعة واثباتا للذات ينتهي بانتهاء المباراة بدون أن تتوقف الحياة عندهم وبدون حقد أو كراهية لبعضهم البعض أو تداعيات نفسية واجتماعية، لأن الكرة عندهم مجرد لعبة ومتعة وفرجة لا تتعدى حدود المستطيل الأخضر ولا تسيء للقيم والأخلاق والأداب العامة أو النظام العام، لكن عندنا صار الأمر بحاجة الى دراسة سيكولوجية معمقة لفهم هذا الذي يحدث لشبابنا مع نواد لا تربطنا بها أية علاقات روحية اجتماعية أو ثقافية وحضارية. صحيح أن المتعة التي تمنحها مباريات البارسا والريال لمتابعيها والكثير من مباريات النوادي الأوروبية لا نجد لها أثرا في دورياتنا العربية، وصحيح أن دورياتنا تعيسة وكرتنا مريضة ووسائل الترفيه عندنا قليلة، صحيح أيضا أن شبابنا يعيش فراغا روحيا وثقافيا وفكريا رهيبا، لكن أن يصل به وبنا الأمر الى حد التعصب للبارسا أو الريال وربما الاقتتال من أجلهما، فيه الكثير من المبالغة والكثير من الجهل والتخلف الفكري والثقافي وحتى الرياضي.
الكرة عندهم هي وسيلة للترفيه والمتعة، وعندنا أصبحت وسيلة احتقان وتذمر وعنف، الحديث عن الكرة عندهم يقتصر على يوم واحد في الاسبوع لكن حياتنا وكل أيامنا حديث عن الكرة وبالضبط عن البارسا والريال بتعصب كبير حتى لدى الأطفال الصغار الذين ينشأون على حب أو كره البارسا أو الريال أكثر من حبهم لبعضهم بعضا وحبهم لفرقهم ومنتخبات بلدانهم ولأوطانهم! قد يجوز التعصب للوطن ويكون محببا في غالب الأوقات، وقد يكون التعصب للدين والعرض والشرف مطلوبا، وقد أتعصب لفريقي أو منتخب بلادي عندما تقتضي الضرورة، لكن ليس لفريق أجنبي يمنحني مجرد متعة ظرفية عندما يفوز ويقلب كياني عندما يخسر. لقد بلغ الأمر بشبابنا حدا لا يطاق من التفسخ والانسلاخ عن القيم، لا يمكن تبريره خاصة عندما يصل الى درجة الاحتقان والاقتتال أحيانا لمجرد خسارة أحد الفريقين أو خطأ تحكيمي يصبح حديث العام والخاص لأيام بل لأسابيع! الاعلام الرياضي العربي ساهم بدوره سلبا في «تفشي» ظاهرة البارسا والريال في أوساط مجتمع فقد هويته ومقوماته من خلال إعطاء الكلاسيكو أكثر مما يستحق، والتسويق له باعتباره حدثا كرويا عالميا هو الأكبر والأفضل على الاطلاق وأكبر حجما من كل أفراحنا و همومنا وانشغالاتنا، وأكبر من كل حدث أخر في عالمنا، تتوقف الحياة عنده ونحزن أو نفرح به لحد الجنون.
الاعلام نفسه مطالب بالقيام بدوره التوعوي والتحسيسي مرفوقا بالتربية والتثقيف باعتبار أن الكلاسيكو هو مجرد مباراة في كرة القدم بين فريقين اسبانيين، وليس معركة حياة أو موت، ومطالب بإيجاد بدائل أخرى تساهم في الترفيه والتنفيس عن أبنائنا الذين يحاصرهم الروتين والفراغ والقمع والكبت والانفصام وكل الهموم التي جعلتهم يتعلقون بالكلاسيكو والبارسا والريال بشكل مخيف.
نشر في القدس العربي بتاريخ 04 – 1 – 2018