ى بعد أسابيع، بل أيام، من موعد احتضان قطر لمونديال 2022، عادت الإمارة الصغيرة في الحجم وعدد السكان لتتصدر عناوين الصفحات الأولى للجرائد العالمية، وتقارير المواقع والقنوات التلفزيونية العالمية، سواء التي كانت متفائلة، أو تلك التي راودها الشك على مدى أكثر من عقد من الزمن حول قدرات قطر، ليتأكد للجميع في نهاية المطاف أن الحلم، أو بالأحرى “الوهم” عند البعض تحول إلى حقيقة تقتضي التوقف عندها كتجربة فريدة يعود فيها الفضل بعد الله، لمن تجرأ وفكر، ثم غامر فقرر، ومن قاد عملية تجسيد مشروع استثماري كبير ومتنوع ركز على الإنسان قبل البنيان، مستغلاً كل الموارد المالية المتوفرة بشكل لم يتوقعه أحد في المنطقة والعالم أجمع، رغم كل الصعوبات والأزمات المتراكمة مع الوقت.
كل شيء بدأ فعلياً قبل 3 عقود، بعد تفكير وتدبير وتخطيط ارتكز على 5 محاور مهمة، شملت الإعلام في المقام الأول من خلال تأسيس قناة “الجزيرة الإخبارية”، التي شكلت في حينها، ثورة استهدفت النخبة، ثم “الجزيرة الرياضية” التي تحولت إلى “بي إن سبورتس” لخطف أنظار الشباب العربي المحب للرياضة كوسيلة ترفيه وتثقيف في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
تمكنت الجزيرة، بشقيها السياسي والرياضي، من تصدّر المشهد الإعلامي والسياسي والرياضي على حد سواء، ثم بدأت عملية الاستثمار في النشاط الرياضي من خلال تنظيم أكبر الأحداث الرياضية، بما في ذلك الظفر بحق احتضان مونديال 2022، الذي كان بمثابة نقطة تحول كبيرة رافقتها نهضة كبيرة في مجالات التربية والتعليم والصحة والخدمات، ما ساهم في ارتفاع معدل الدخل السنوي للفرد إلى أعلى مستوياته، وبلوغ أعلى درجات النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي والفكري والعلمي.
بداية مونديال 2022
الذي فكّر في قطر بداية تسعينيات القرن الماضي أدرك قبل الكثير بأن التموقع يبدأ من الإعلام، من مخاطبة العقول قبل القلوب، والمساهمة في صناعة الرأي، وتغيير مفاهيم كانت سائدة قبل منتصف التسعينيات، فتم إطلاق “الجزيرة الإخبارية” في نوفمبر/تشرين الثاني 1996 بميزانية قدرت بـ25 مليون دولار، في ظرف كانت الأحادية في الرأي والفكر تميز المشهد السياسي والإعلامي العربي.
وكانت المجتمعات العربية ومعها العالم يمر بواحدة من أصعب الفترات نتيجة تفاقم الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية، وحتى الفكرية والعقائدية والطائفية، وهي الظروف التي خدمت “الجزيرة الإخبارية” ومن خلالها قطر التي صارت على كل لسان في الوطن العربي، وحتى على الصعيد العالمي، لتتحول إلى مصدر للخبر والمعلومة، ومنبراً لصاحب الفكرة استثمر فيها ليلعب مع الكبار.
الطموح كبر مع الوقت، وكان على المشروع أن يكبر ويتسع ليشمل فئات أخرى في المجتمعات العربية من الشباب الذي كان آنذاك في حاجة إلى وسيلة ترفيه تلبي حاجياته، فجاءت “الجزيرة الرياضية” سنة 2003، 6 سنوات بعد الجزيرة الإخبارية، تحولت سنة 2014 إلى مجموعة قنوات تمكنت من بث مختلف الأحداث والمسابقات والبطولات الرياضية، ودعمت بقنوات أفلام ومسلسلات لاستقطاب كل فئات المجتمع العربي، حتى تحولت إلى قبلة الصغار والكبار على حد سواء في كل المجالات، ليكتمل الغزو القطري للقلوب بعد العقول بفضل سلاح القوى الناعمة التي استقطبت كل الكفاءات العربية ودفعت بالجيل الصاعد في قطر للاحتكاك بمختلف الثقافات والتجارب التي أثرت المشهد.
الرياضة بعد السياسة
بعد الإعلام السياسي ثم الرياضي، راح صاحب الفكرة والقرار يلعب مع الكبار سياسياً، وينصب قطر لاعباً أساسياً، احتضن مواعيد سياسية كبرى مطلع الألفية، استثمر فيها لتطوير وتنويع علاقاته، مثلما استثمر في تنظيم الأحداث الرياضية الكبرى التي جعلت من الدوحة في ظرف زمني قصير عاصمة للرياضة العالمية، تمكنت من احتضان أكثر من 500 حدث رياضي جهوي وعالمي في كل الرياضات ولمختلف الفئات السنية، الى أن تحقق حلم احتضان أول مونديال في البلاد العربية، في أول محاولة، في ظرف وجيز لم يتجاوز العقدين من الزمن، إلى أن تحقق حلم احتضان أول مونديال في البلاد العربية، رافقته عمليات تشييد مرافق رياضية وبنية تحتية وطرق، وتطوير رحلات شركة الخطوط الجوية القطرية نحو القارات الست بوتيرة نمو فريدة لأسطول صار يضم أكثر من 200 طائرة، تخدم ما يزيد عن 150 وجهة حول العالم.
المونديال مجرد بداية
تنظيم المونديال بالنسبة لمن فكر وقرر وتحلى بالجرأة في الترشح لاحتضانه، لم يكن غاية بقدر ما تحول إلى وسيلة لاستكمال بناء البلد، وإعداد الأجيال الصاعدة لمواجهة التحديات من خلال التأسيس لمنظومة تربوية وتعليمية رائدة، استندت على مدارس حكومية وأخرى خاصة، وجامعات دولية تحت إشراف مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، تخطت كل نماذج التعليم التقليدية، وفتحت باب الابتكار والاختراع والمساهمة في خدمة البشرية، بعد أن رفعت من مستوى التعليم للمواطنين والمقيمين، ومستوى الخدمات الصحية التي صارت أولوية مع الوقت، تحولت إلى واحدة من أحسن المنظومات الصحية في العالم، برهنت على نجاعتها في زمن جائحة كورونا التي نجحت في مواجهتها بأقل الأضرار.
بناء الدولة ومواصلة رفع التحديات لمواجهة الحاجيات المستقبلية لن يتوقف على احتضان المونديال بكل ما رافقه من تحولات، بل يتعداه إلى احتضان أولمبياد 2032، وتحويل قطر إلى وجهة سياحية تستقطب الإنسان أولاً، والمال ثانياً، من خلال تكييف القوانين لفتح باب الاستثمارات الأجنبية، والاستمرار في اللعب مع الكبار بجيل صغير في السن تحصن فكرياً وعلمياً وصحياً، وتحرر من كل العقد التي لازمت المواطن العربي عبر الزمن قبل أن يتجرأ الأمير حمد بن خليفة آل ثاني ومن معه بداية التسعينيات لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
حفيظ دراجي
عربي بوست 21 سبتمبر 2022