ما يحدث في العاصمة القطرية الدوحة هذه الأيام لا يمكن أن يكون مجرد كأس عرب في كرة القدم تجمع منتخبات عربية تريد التتويج بأول طبعة من نوعها على كلّ المستويات، ولا يمكن أن يكون مجرد حدث تريد من خلاله الفيفا اختبار قدرات قطر على احتضان كأس العالم بعد سنة من الآن، ولا حتى مجرد حدث رياضي كغيره من الأحداث التي ألفناها على مر السنين، بل هي أكثر من ذلك بكثير من كلّ الجوانب، بما في ذلك التنافسي والإعلامي والجماهيري، لتأخذ أبعادا أخرى يثبت من خلالها البلد الصغير “مساحة” أنه بإمكانك أن تكون كبيراً في ظرف وجيز، بشكل لافت وملهم للكثير من شعوب ودول المعمورة، وأن التميز ليس حكراً على البلدان الكبيرة والمتطورة، بل بإمكان كلّ من يحسن توظيف المال، ويملك الرؤية والمشروع والجرأة والرجال أن يكون قطر إذا أراد.
صحيح أن المتعة الكروية في ملاعب مونديالية ومرافق عالمية بلغت درجة كبيرة من التنافس بين المنتخبات المشاركة، رغم بلوغها درجة التعصب أحياناً في الأوساط الإعلامية والجماهيرية، جعلتنا نخاف أن يتحول العرس إلى بؤس، يذكرنا بتلك الأيام التي كانت فيه الكرة مادة للاستغلال السياسي البشع، تفرّق أكثر مما تجمع، وتزيد من حجم الأحقاد والكراهية بين الناس أكثر مما هي عليه اليوم، لكن مواجهة الجزائر مع مصر كانت قمة في الاحترام المتبادل وواحدة من مكاسب هذه البطولة التي عاشت فيها الجماهير عرساً فوق الميدان، في المدرجات وخارجها، فاضطرت وسائل الإعلام أن تسايره دون أن تفسده كما جرت العادة كل مرة، وحاولت أن تنفخ فيه في المواجهة بين المغرب والجزائر بسبب العلاقات السياسية المشحونة بين البلدين.
قطر رفعت تحديات كثيرة في بطولة قطر 2021 منذ حفل الافتتاح الذي لا يزال يتحدث عنه الناس لحد الآن بمضمونه وشكله وأبعاده السياسية والفكرية والثقافية والحضارية والإنسانية قبل الرياضية خاصة عندما تعرض نشيداً موحداً للبلدان العربية وتكرم العلماء وتربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتقدّم للعالم صورة بلد يتقن فن الإبداع والإمتاع ويقدّم صورة جميلة عن أمة ارتبط اسمها لدى الغرب بالتخلف والجهل والعنف وعدم القدرة على مسايرة التحولات التكنولوجية التي يشهدها العالم، وعجزها عن تنظيم محفل رياضي عالمي، لكنها كشفت عن بنية تحتية ومرافق وتجهيزات وملاعب لا تتوفر عليها أكبر دول العالم، وبرهنت أنها تستحق تنظيم كأس عالمية في كرة القدم بكل جدارة واستحقاق، بشهادة الغريب قبل القريب.
القضية ليست مرتبطة بتوفر المال فقط، بل بتوظيف المال والاستثمار في الذكاء البشري دون عقدة، خاصة أن دولا كثيرة عربية وغيرها تملك المال الكثير وتفتقد لحسن التدبير والجرأة في التغيير الكبير الذي يتجاوز تنظيم كأس العالم في كرة القدم إلى لعب دور أساسي في منظومة دولية لا ترحم الصغير والضعيف، وتحترم الصغير عندما يتحول إلى كبير وقوي سيصل دون شك إلى فرض استهلاك الطعام واللباس القطري لا محالة، بعدما جعل من مجرد كأس عربية حدثاً عالمياً يتحدث عنه كلّ العالم الذي سيصدم بعد سنة عندما يحين موعد كأس العالم الفعلية التي ستكون استثنائية في كلّ شيء، تساهم في تغيير عديد المفاهيم والمعايير التي كانت سائدة إلى وقت قريب قبل أن تتجرأ قطر وتنتزع شرف تنظيم كأس العالم من أميركا بقوتها ونفوذها وجبروتها.
قطر جعلت من المستحيل ممكناً، ومن الممكن في السياسة والإعلام والرياضة وسيلة لبناء دولة حجمها صغير، لكن تأثيرها كبير لن يتوقف عند هذا الحد من التأثير في الداخل والخارج، لأنه سيحرك شعوباً ودولاً أخرى لكي تتحرر بدورها من كلّ العقد، خاصة تلك التي تملك القدرات والمقومات والإمكانيات المادية والبشرية.
حفيظ دراجي
العربي الجديد 12 ديسمبر 2021