قبل أولمبياد باريس 2024 حققت الجزائر سبع ميداليات ذهبية من أصل 19 ميدالية في مجموع المشاركات في الأولمبياد منذ سنة 1964، لكن ميدالية الملاكمة إيمان خليف كانت الأجمل والأروع والأكثر إثارة في التاريخ بسبب كلّ الذي أحاط بها من جدل في أوساط السياسيين والرياضيين والمشاهير الذين شككوا في أنوثتها وقادوا ضدها حملات تشويه وترهيب في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، لم تزد الجزائرية إلا إصراراً وعزيمة التي هزمت الإيطالية والمجرية والتايلاندية وبطلة العالم الصينية في النهائي، وهزمت أكاذيب دونالد ترامب، وإيلون ماسك، ورئيسة وزراء إيطاليا وممثل روسيا في مجلس الأمن، ومشاهير الفن والثقافة والرياضة الذين تكالبوا على امرأة بقفازين من حديد.
إيمان خليف واجهت العالم بأسره باللكمات وليس بالكلمات، فكانت ضرباتها موجعة بحجم الوجع الذي تجرعته، وحجم كرامتها المجروحة على مدى أيام الألعاب التي حصدت فيها الكثير من الحاقدين، وكسبت فيها بالمقابل الكثير من المنصفين والمحبين على غرار اللجنة الأولمبية الدولية التي وقفت إلى جانبها وأكدت على لسان رئيسها توماس باخ أن إيمان خليف “ولدت أنثى، وكبرت أنثى، وما زالت أنثى، ومن حقها المشاركة في المنافسة الرياضية الخاصة بالإناث، وما يحدث تنمر وتهكم وعنصرية في ألعاب كان من المفروض أن تسودها المحبة والتسامح والسلام، ويلتزم فيها الجميع بالقيم والأخلاق تجاه امرأة مكافحة”.
قبل المنازلة النهائية أمام بطلة العالم الصينية يانغ ليو، قالت إيمان لوكالة الأنباء الألمانية: “جئت إلى باريس لتحقيق الحلم الأولمبي، وتحقق هذا الحلم، ليعلم العالم كلّه أنني عانيت كثيراً من أجل هذه اللحظة التاريخية، إنه حلم طويل تحقق أنا فخورة بهذا الإنجاز، وبأنوثتي وبتشريفي للعلم الجزائري، قضيتي قضية شرف، هو فوزٌ لكلّ الجزائريين وكلّ العرب وكلّ من ساندني من كلّ أنحاء العالم”. وبعد تتويجها صدمت العالم بتصريحات فيها من النضج والوعي والعزة والكرامة والشرف ما يكفي، علّمت منتقديها درساً في قيمٍ لم يتحلوا بها في تعاملهم مع امرأة، هي لم تكن فعلاً ككلّ النساء، بل كانت بألف من الذكور الذين تنمروا وتهكموا عليها، ففازت عليهم كلّهم فوق الحلبة وخارجها.
الصبر الذي تحلّت به إيمان خليف على مدى أسبوعين لم يسبق له مثيل، يرشحها للتتويج بجائزة نوبل للصبر، ويصنّف تتويجها الأجمل في تاريخ الأولمبياد لأنّه كان رياضياً وسياسياً وأخلاقياً ضد إرهاب فكري ونفسي جماعي من متنمرين كانوا سيتضامنون معها لو كانت شاذة ومتحولة جنسياً، لكن لأنها افتخرت بأنوثتها وانتمائها ودينها فقد حاربوها في كلّ المنابر، وحاولوا التأثير بمعنوياتها لتسقط وتنهزم، لكنها لم تستسلم رغم تحامل الاتحاد الدولي للملاكمة الذي عقد ندوة صحافية عشية منازلة نصف النهائي ليفتري عليها، ويستعمل قضيتها في حربه ضد اللجنة الأولمبية الدولية التي عاقبته وأقصته بسبب خروقات وتجاوزات مارسها منذ سنوات.
لقد تُوّجت الجزائر بميداليتين ذهبيتين في أولمبياد باريس، بانتظار الثالثة عشية اليوم بواسطة العداء جمال سجاتي في سباق 800 متر، وتُوّجت قبلها بميداليات من قبل في الملاكمة وألعاب القوى والجودو، كلّ ميدالية كانت أجمل من الأخرى، لأنها تحمل قصة نجاح وتحد، لكن أجمل الميداليات في كلّ الألعاب والبطولات كانت تكمن في رفض الرياضيين الجزائريين مواجهة الإسرائيليين، انتصاراً للقضية الفلسطينية، خصوصاً أنّ الفوز أو الخسارة أمامهم يعتبر هزيمة في حدّ ذاتها وخيانة لقضية شعب لا يزال يعاني ويلات الإبادة، وربما هذا هو الذي جعل الكلّ يتكالب على إيمان وغيرها من الجزائريين، في كلّ مرة، بسبب ودون سبب، وجعل أحرار العالم يقفون إلى جانبها ويشجعونها إلى أن حققت أعظم ميدالية في تاريخ الأولمبياد، ستدرس في المدارس والمعاهد والجامعات، وتكون سيناريو لأفلام ومسلسلات لأكبر المخرجين من الرجال الذين يقدّرون النساء طبعاً، وليس من أشباه الرجال الذين يصعب تحديد جنسهم بسبب ممارساتهم…
حفيظ دراجي
العربي الجديد 10 أغسطس 2024