بعد أكثر من 12 عاما من العزلة الدبلوماسية التي فرضتها أغلب الدول العربية على دمشق بدأت بوادر عودة سورية الى الحضن العربي تلوح في الأفق منذ محاولات الجزائر قبيل القمة العربية الأخيرة، ثم عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وايران، وبعدها استقبال السعودية وزير خارجية سورية ، واحتضانها لاجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر والعراق ، تمهيدا لتطبيع محمود يسمح بعودة سورية الى الجامعة العربية التي علقت عضويتها فيها منذ 2011، و تحريك المياه الراكدة عربيا منذ مدة، مما أثار الكثير من ردود الفعل المؤيدة ، وأعاد الى الأذهان تلك المواقف الصائبة للدبلوماسية الجزائرية من عديد القضايا العربية على رأسها الأزمتين السورية والليبية والحرب في اليمن ، وحتى على مستوى القضية الفلسطينية ومسألة التطبيع مع الكيان الاسرائيلي .
الاتفاق السعودي الإيراني على اعادة العلاقات الديبلوماسية برعاية صينية الشهر الماضي بعد قطيعة دامت عشر سنوات ، كان بمثابة تحول عميق يفضي دون شك الى حلحلة عديد المشاكل لدى حلفاء ايران في العراق و سوريا ولبنان ، وينعكس باالايجاب على الحرب التي يخوضها البلدان بالوكالة في اليمن من خلال استقطاب الحوثيين وكل الاطراف اليمنية الى طاولة المفاوضات وإيقاف الحرب التي أنهكت السعودية واليمن وإيران على حد سواء، وأثرت على وحدة الصف العربي، لكن الجزائر بحكمتها وحنكتها، كانت من البلدان القليلة التي راهنت على الحوار والسلمية ، و لم تنخرط في أي تحالف عسكري فيها، بل كانت تدعو دوما الى حل النزاع اليمني بالتفاوض، وتدعو الى حل الأزمة السورية سياسيا وليس عسكريا .
بعد عودة الدفء الى العلاقات السعودية الايرانية بأيام يفاجئ العالم، بزيارة وزير الخارجية السوري إلى جدة ولقائه بوزير الخارجية السعودي، والذي تلاه بأيام عقد اجتماع وزراء الخارجية لمجلس التعاون الخليجي بمشاركة مصر والأردن والعراق لتذليل الخلافات العربية حول الشأن السوري، خلص الى ضرورة تكثيف الجهود للتوصل الى حل سياسي للأزمة السورية يحافظ على وحدتها وأمنها واستقرارها ويعيدها الى الحضن العربي، بالموازاة مع حل الأزمة الإنسانية وعودة اللاجئين والنازحين ، وهو الأمر الذي يمر حتما عبر عودة سورية الى جامعة الدول العربية ومشاركتها في قمة الرياض المقبلة بحضور الرئيس السوري بشار الأسد .
الجزائر كانت سباقة للدعوة إلى حل سلمي للحرب في اليمن، ولم تقطع حبل الود مع سورية الدولة والأمة والتاريخ في محنتها ، وحاولت بمناسبة قمة الجزائر الأخيرة إقناع الأشقاء بضرورة استعادة دمشق ومساعدتها على إيجاد حلول لمشاكلها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وكل مشاكل اللاجئين والنازحين والمفقودين والمعتقلين ، أما السعودية فقد كانت من أشد المعارضين لمشاركة سورية في القمة السابقة ففشلت مساعي الجزائر، رغم نجاحها في طرح الملف، قبل أن يتغير الموقف دون أن تتغير المعطيات ، ودون أن يثير ذلك امتعاض الجانب الجزائري الذي استقبل البارحة وزير خارجية سوريا في الجزائر حيث قدم عرضا لرئيس القمة العربية حول اجتماع جدة، فرحبت به الجزائر ورحبت بكل مبادرة تخدم قضايا الأمة بغض النظر عن صاحب الفضل
.
عودة سورية ومشاركتها في القمة العربية في جدة صار تحصيل حاصل رغم تحفظ بعض الدول وتحسس البعض الأخر من دور الجزائر وحكمتها في التعاطي مع الملفات العربية وحساسيتها ، بثبات ودون تردد حتى ولو وجدت نفسها وحدها مثلما كان عليه الحال في الأزمة السورية و الحرب اليمنية والأزمة الليبية ، وكل القضايا الشائكة في لبنان والعراق، كما أن الجزائر لم تكن تبحث عن سمعة أو شهرة من خلال سعيها لحل مشاكل بلد عظيم قتل فيه أزيد من نصف مليون شخص، وتشرد أكثر من نصف سكانه داخل سوريا وخارجها ، وتحولت البلاد الى ساحة تصفية حسابات بين قوى اقليمية ودولية، زادتها تفاقما العقوبات الأمريكية والأوروبية وحتى العربية على البلد .
السياسة مصالح والمواقف قد تتغير حسب تغير المعطيات الذاتية والموضوعية والظرفية التي يصعب التكهن بها لذلك يمكن تفهم التغيير الحاصل في الموقف السعودي تجاه إيران وسورية، وتغير مواقف دول الخليج ومصر والعراق والأردن، لكن لايمكننا أبدا فهم تعاطي بعض وسائل الإعلام ، و أشباه الإعلاميين والمحللين الذين صدعوا رؤوسنا بكل أشكال الاتهامات تجاه الجزائر بسبب موقفها الداعم لعودة سورية ، وإنهاء الحرب في اليمن ، والتي تبين مع الوقت أنها كانت مواقف صائبة سابقة لزمانها، أما من يتحدثون اليوم عن انتصار الرئيس بشار الأسد وخسارة المعارضة و الأنظمة العربية التي وقفت ضده فلا تهمهم لا سورية ولا شعبها ، ولا يهمهم اعادة ترتيب البيت العربي دون منتصر ومهزوم والتفرغ بعدها للملف الفلسطيني أم القضايا العربية .
ليس كل تطبيع خيانة وجبن ومهانة خاصة عندما يكون بين الأشقاء، ويسمح بعودة سوريا إلى حضنها العربي، وإنهاء الحرب في اليمن ، وفي كل البلاد العربية، اذ لا يعتبر خيانة لمبادئ أو مواقف أو قيم ، مقارنة بالتطبيع مع كيان اسرائيلي محتل لايؤمن بالسلم و لا يحترم العهود والحقوق الشرعية لشعبنا الفلسطيني، لكن مع ذلك يجد من يرحب به و يفتح له أبوابه ويتعامل معه وكأنه ولي حميم، وفي نفس الوقت يضغط ويستثمر في الجهد السعودي ليتوسط له مع الجزائر لأجل إعادة فتح الحدود والأجواء دون أدنى اعتبار للضرر المادي الذي يلحق بالجزائر جراء ذلك خاصة في ظل التواجد الاسرائيلي في المنطقة وتفشي تجارة المخدرات وتهريب المواد الغذائية الجزائرية عبر الحدود ، والضرر المعنوي الذي تعرضت له الجزائر وشعبها الذي صار في نظرهم دون هوية ولا تاريخ ولا سيادة ، وصارت الجزائر صنيعة فرنسا سنة 1962، و غرب الجزائر كله مغربي يجب أن يعود إلى حضن المملكة.
حفيظ دراجي
الجزائر الأن 17 أبريل 2023