الملحمة الكروية التي صنعها المنتخب السعودي البارحة امام الارجنتين أعطت الإشارة الفعلية لانطلاقة مونديال قطر 2022 ، في مباراة تاريخية شهدت أكبر حضور جماهيري في تاريخ قطر بأكثر من 80 ألف متفرج شهدوا بدورهم فصول انتصار على الارجنتين المرشح الأول للفوز بلقب البطولة، وشكلت مفاجأة من العيار الثقيل لكل عشاق الكرة بمن في ذلك السعوديين أنفسهم الذين لم يسبق لهم مشاهدة منتخبهم بتلك الروح العالية، والإصرار الكبير، والوتيرة العالي واللياقة البدنية الخارقة، والجرأة الهجومية الكبيرة، والتنظيم الدفاعي المتميز الذي اعتمد دفاع الخط، الذي كاد يكلفه غاليا في الشوط الأول، أمام منتخب أرجنتيني فاقد للتوازن، وللحلول الفنية طيلة الشوط الثاني من عمر المباراة، التي أشعلت المونديال، وحركت مشاعر لاعبي المنتخب التونسي الذين كادوا يطيحون بالدنمارك بدورهم.
بشهادة كل المتابعين للكرة السعودية لعب الأخضر أفضل مباراة له في تاريخ مشاركاته الست في نهائيات كأس العالم، بل في تاريخ الكرة السعودية على كل المستويات الفردية والجماعية، الفنية والبدنية، النفسية والذهنية، وكأن الأمر يتعلق بلاعبين جاؤوا من كوكب آخر، لم يتركوا الفرصة لخصمهم حتى يفرض وتيرته ونمط لعبه بالرغم من كل النجوم الذين يزخر بهم، ولم يتراجعوا الى الخلف حتى في اللحظات الأخيرة من اللقاء، الذين كان فيه تركيزهم عاليا، وتنظيمهم الدفاعي متميزا، رغم خروج سلمان الفرج متأثرا بالإصابة، حيث تمكن المدرب الفرنسي الماكر هيرفي رونار من صناعة الفارق، خاصة بين شوطي المباراة حسب التسريبات التي تحدثت عن غضبه من الأداء الدفاعي الذي مكن الأرجنتينيين من الوصول لمرمى الحارس المتألق محمد العويس، وحثهم على الاستمتاع ولعب الكرة التي يتقنونها من دون حسابات.
المنتخب الأرجنتيني من جهته لم يفهم ما حدث له امام السعودية التي استصغرها بعدما سجل عليها الهدف الأول المبكر، واعتقد أنه سيسجل مهرجانا من الأهداف بسبب الثغرات الدفاعية التي ظهرت في الشوط الأول، لكن العكس هو الذي حدث، فلم نشاهد ميسي، ولم يقدر وسط ميدانه وهجومه على اختراق الدفاع في السعودي في الشوط الثاني، ولا حتى إيجاد المساحات التي تمكن دي ماريا ولاوتارو مارتينيز من تعديل النتيجة على الأقل في الشوط الثاني، ليخسر الفريق منطقيا لأول مرة منذ يوليو/تموز 2019، و تتوقف سلسلة 36 مباراة من دون هزيمة على يد الأخضر السعودي، ما يعقد من مأمورية الأرجنتين الذي تنتظره مباراة تقرير مصير السبت المقبل امام المكسيك المتعادل ضد بولندا في مباراته الاولى، الا اذا انتفض ميسي في آخر مونديال له، وقاد منتخب بلاده الى سكة الانتصارات مجددا، وهو الذي حاول بعد الخسارة تحفيز لاعبيه عندما دعاهم لرد الفعل والتأكيد على أنهم مجموعة واحدة موحدة لا تنكسر بسبب الخسارة.
المنتخب السعودي سيكون بدوره على موعد مع التأكيد في مباراة ينتظر أن تكون أصعب من مواجهة الأرجنتين، تتطلب تركيزاً أكبر، ولياقة عالية، ونفس الروح القتالية، مع تسيير أمثل لنشوة ومشاعر الفوز بالمباراة الأولى، أمام منتخب بولندي محترم خاصة في ظل غياب ياسر الشهراني وسلمان الفرج بسبب الإصابة في مباراة الأرجنتين. كما أن الضغوطات الإعلامية والجماهيرية على اللاعبين ستكون كبيرة، لن ترضى عن التأهل الى الدور الثاني بديلا، ولما لا الذهاب أبعد ما يكون في بطولة وكأنها تجري في الأراضي والملاعب السعودية بالنظر للأعداد الهائلة التي غزت العاصمة القطرية الدوحة بأعداد فاقت المئة ألف مشجع، يعتبرون الفوز على الارجنتين بمثابة انجاز كبير يتطلب جهدا أكبر لتحقيق المزيد.
الحضور الجماهيري السعودي، القياسي والمثالي، والتاريخي سيكون له مفعوله مثلما كان عليه الحال في المباراة الأولى، ليضفي على المونديال نكهة خاصة وطابعا عربيا فعلا، ليس فقط لأنه ينظم في البلاد العربية، لكن لأن شبان المملكة، ونسور قرطاج وأسود الأطلس الذين تألقوا في مبارياتهم الأولى، يريدون دخول التاريخ وبلوغ أدوار متقدمة، مثلما دخلت قطر التاريخ باحتضانها للمونديال بشكل استثنائي يبقى أيضا في التاريخ.
حفيظ دراجي
القدس العربي 23 نوفمبر 2022