على مدى 12 سنة مضت، اكتفت قطر بالتركيز على الإعداد لاحتضان مونديال 2022 في صمت، دون أن ترد على حملات التشويش والتشويه التي تعرضت لها في أوساط رياضية وإعلامية، وحتى سياسية غربية بالخصوص. غير أنّ زيادة حدة الهجمات عليها في الأيام الأخيرة التي تسبق الحدث العالمي، دفعت السلطات القطرية إلى الانتقال إلى مرحلة الهجوم، باستدعاء وزارة الخارجية السفير الألماني في الدوحة وتسليمه مذكرة احتجاج على تصريحات وزيرة الداخلية الألمانية التي انتقدت ما أسمته وضعية حقوق الإنسان المتردية في قطر ورفضها منح تنظيم كأس العالم لبلدان لا تلتزم معايير حقوق الإنسان والنساء والعمال والمثليين.
وهي الأسطوانة نفسها التي سئم العالم سماعها على مدى سنوات، رغم كل الجهود التي بذلتها قطر في جميع المجالات، بما فيها تكييف قوانينها مع دفتر شروط تنظيم كأس العالم، واحتضانها من قبل لأحداث رياضية عالمية كبيرة.
واعتبرت السلطات القطرية تصريحات الوزيرة الألمانية مرفوضة ومستهجنة ومستفزة للشعب القطري ولبلد تشكل بالنسبة إليه استضافة كأس العالم إنصافاً لمنطقة ظلت تعاني من تداعيات صورة نمطية ظالمة وحاقدة لسنوات تعتبر العرب والمسلمين مجتمعات من درجة ثانية وثالثة، لا يمكنها المساهمة في صناعة التاريخ وإظهار خصوصيات حضارة المنطقة وتراثها، في وقت صفق الألمان والأوروبيون لفلاديمير بوتين سنة 2018 عندما احتضنت روسيا آخر مونديال رغم مجازرها في سورية وليبيا.
لكن عندما تعلّق الأمر بأوكرانيا انقلبوا عليه، وتحالفوا ضده، ومنعوه حتى من المشاركة في المونديال، وهم الذين كانوا يدعون إلى عدم خلط الرياضة بالسياسة عندما يتعلق الأمر بفلسطين ومعاناة شعوب عربية وإسلامية أخرى من ويلات الحروب والاحتلال وانتهاك حقوقهم المشروعة في الحياة الكريمة.
تصاعد الحملات الإعلامية والسياسية في أستراليا، ألمانيا، الدنمارك وفرنسا وبريطانيا، قبل أسابيع قليلة من الموعد يؤكد كمية الحقد الغربي على كل ما هو عربي ومسلم، وازدواجية المعايير التي يتعامل بها، وسياسة الكيل بمكيالين من خلال رفع شعارات حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، والسكوت عن الجرائم الإنسانية التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وانتهاكات حقوق الفلسطينيين في الحياة، وكذلك من خلال دعوتنا إلى احترام مبدأ العلمانية في أوروبا، في وقت لا يحترمون ديننا الإسلامي وثقافتنا وتقاليدنا وعاداتنا، من خلال دعوة قطر إلى الترحيب بالمثليين والسماح لهم بممارسة طقوسهم، والسماح ببيع واستهلاك الخمور بشكل واسع في الشوارع والمرافق الرياضية والسياحية في قطر.
انتقال قطر في اللحظات الأخيرة نحو الهجوم على كل من يهاجمها بعد سنوات من الصمت، وقبل أيام من الموعد، اعتبره المراقبون فعلاً استباقياً ضرورياً، تحسباً لحملات أخرى مرتقبة قبيل المونديال وفي أثنائه، حاول أصحابها ابتزاز السلطات القطرية للحصول على مشاريع وامتيازات مقابل عدم افتعال المشاكل.
لكن عندما فشل هؤلاء في ذلك، راحوا يطلقون رصاصاتهم الأخيرة في كل الاتجاهات، تارةً بحجة الفساد والرشى، وتارة أخرى بمزاعم انتهاكات حقوق الإنسان والعمال والمثليين، أو بسبب ما اصطلح على وصفه بالتضييق على الحريات الفردية والجماعية، فيما يعاني المهاجرون في أوروبا كل أشكال التمييز العنصري والاستغلال، وتعاني بلدان عربية وأفريقية من الاستغلال والتمييز وازدواجية المعايير.
الغرب صار يُدرك أكثر من أي وقت مضى أن قطر ستفاجئ العالم بتنظيم مونديال فريد من نوعه، يكتشف فيه الزوار أن كل ما يُقال ويُثار في وسائل الإعلام مجرد رصاصات مطاطية تخلّف أصواتاً، لا تصيب ولا تؤثر في القافلة التي تواصل السير بثبات.
حفيظ دراجي
العربي الجديد 29 أكتوبر 2022