تمر اليوم الذكرى الثالثة لاندلاع الحراك الشعبي الجزائري الذي تمكن في ظرف أيام من الإطاحة بمنظومة حكم سادت لعقدين من الزمن، حكمت باسم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. كما تحكمت في رقاب الناس وأساءت للجزائر أكثر مما أساءت للجزائريين خاصة خلال العشر سنوات الأخيرة من حكم رجل لم يكن قادراً على القيام بواجباته الدستورية، تاركاً أمانة تسيير الشأن العام إلى ما وصفهم الجزائريون بـ”العصابة” في هبتهم الشعبية التي أنقذت الجزائر من السطوة والانهيار، قبل التفرغ لإنقاذ الحراك من الانحراف والاختطاف على أيدي عصابة جديدة تنادي بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، لكنها سعت إلى قمع الحريات وتخوين النيات الصادقة وتصنيف الناس كما يحلو لها، ليبقى السؤال مطروحاً إلى اليوم عن مصير الحراك وما بقي منه بعد رحيل بوتفليقة وقائد أركانه وسجن بعض رموز نظامه!
في الثاني والعشرين من شهر فبراير/شباط 2019 خرج الجزائريون إلى الشوارع بالملايين من مختلف الأطياف والتوجهات والأعمار، رفعوا شعار التغيير السلمي وترحيل الجماعة الحاكمة التي كانت جاثمة على قلوب الجزائريين، وراحت تستفزهم بالترويج لعهدة خامسة لرئيس عاجز، فرفضوا ذلك وصنعوا صوراً رائعة عن شعب مسالم وواعٍ تحمل مسؤولياته التاريخية لإنقاذ وطنه، وقاوم كل محاولات الالتفاف على مطالبه بطريقة سلمية وحضارية رغم تمرير الانتخابات الرئاسية في شهر ديسمبر/كانون الأول من نفس السنة، ثم انتخابات تشريعية تلت تعديل الدستور، ثم تفشي الوباء الذي أوقف الحراك لمدة سنة كاملة قبل أن يعود محتشماً بداية سنة 2021 عبر مسيرات متفرقة تم قمعها من طرف السلطة وتلاشت مع اختفاء الكثير من المطالب والشعارات بمرور الوقت لأسباب ذاتية وموضوعية.
المحصلة أن حراك المسيرات توقف احتراماً لإجراءات الحظر والحجر التي فرضتها السلطات الصحية بعد أن حقق بعض المطالب، لكن حراك النفوس والعقول والقلوب بقي حياً في بعض الأوساط الشعبية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تزال متنفسها الوحيد في ظل تراجع الحريات في بعض وسائل الإعلام، وتوسع الشرخ مع النخبة والأحزاب، وتزايد نسق عمليات التخوين التي تعرض لها الكثير من النشطاء من طرف معارضين متطرفين حاولوا اختطاف الحراك وتشويه صورة النشطاء وكل من دعا إلى ضرورة تمثيله حتى يخلو لهم الجو لتمثيلها عنوة دون تفويض، وتوجيهها إلى حيث يريدون حقداً وانتقاماً وتصفية للحسابات بينهم وبين النظام، في وقت لم يكن الحراك الأصيل حاقداً، ولا كارهاً ولا منتقماً من أحد رغم الضرر الذي لحق بكل أطياف الشعب على مدى عقود من الزمن وفي كل المجالات.
عند بدايته قبل ثلاث سنوات كان الحراك في الجزائر سلمياً، وشعبياً ووطنياً، ولم يكن فئوياً ولا جهوياً ولا متطرفاً في مطالبه وشعاراته، لذلك لم يستمر بنفس الروح وانقسم بشأنه الجزائريون عندما شعروا بأنه يختطف من عصابة أخرى لا تقل خطورة عن العصابة التي كانت تحكم رغم إدراكهم بأن الحق لا يعطى لمن يسكت عنه، وأن النضال هو الكفيل بتحقيق المطالب الشرعية مهما طال الزمن أو قصر، وإدراكه بأن السياسة هي مجال أكبر وأخطر من أن يترك للسياسيين والأحزاب وجمعيات المجتمع المدني التي أبانت عن ضعف كبير في مرافقة طموحات الشعب بتجديد منظومة الحكم بالطرق الديمقراطية، بعيداً عن التطرف والتعصب والتصعيد وإثارة عواطف الناس من خلال الالتفاف حول مشروع جديد يضمن الانسجام الاجتماعي ويتجاوز الاحتقان بنفس الحكمة التي أظهرها الشعب في الثاني والعشرين من شهر فبراير/شباط 2019.
“جزائر فبراير 2022” قد تكون بحاجة إلى هبة وطنية جديدة برجال أنقياء مع الله والعباد، يلتفون حول الوطن وليس بالضرورة حول السلطة، ربما خارج وسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية، ليس بالضرورة في شكل شعارات ترفع في مسيرات ومظاهرات شعبية، لكن من خلال مشروع مجتمع وأفكار وقيم ومبادئ تجمعهم، يرتقون بها إلى مستوى تضحيات الشهداء ومؤسسي الدولة لحمايتها بغض النظر عمن في السلطة، لأن الدولة فوق السلطة والتحديات الأمنية والجيوسياسية المحيطة بالجزائر أكبر من كل الهموم الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل معارك أخرى يمكن تجاوزها بالفكر والعلم والأخلاق العالية وليس بالشتم والسب وقلة الأدب والدعوة إلى هدم مؤسسات الدولة.
حراك الشعب الجزائري لم يقم في 2019 لكي يهدم أو ينتقم، ولا لكي يكون بديلاً عن السلطة، لذلك فإن ما بقي منه في النفوس والقلوب، ينتظر منه أن يبني أو على الأقل يرمم ما تم تهديمه على مدى عقود بكل مشاعر الحب للوطن، والاحترام للمؤسسات، والتقدير للآخر مهما كان الاختلاف.
حفيظ دراجي
عربي بوست 22 فبراير 2022