بدأت القصة مطلع الثمانينيات عندما بلغت سن العشرين، كان مارادونا يفوقني سنّاً بأربع سنوات في عام 1984، حينما صنع الحدث بانتقاله إلى نابولي الإيطالي قادماً من برشلونة، في صفقة غير متوقعة آنذاك. توطدت علاقة العشق في مونديال مكسيكو 1886 الذي قاد فيه الأرجنتين للتتويج باللقب العالمي بعدما صنع روائع كروية لم يسبقها مثيل ولم تتكرر لحد الآن، حينها كنت طالباً في معهد الإعلام وأمارس كرة القدم في المستوى العالي بالجزائر، كنت مولعاً وشغوفاً ومتابعاً لكل مبارياته وأخباره إلى حد الجنون، وأعتقد أنه كان سبباً في عشقي وحبي لكرة القدم، وأحد الأسباب التي دفعتني إلى عشق مهنة الصحافة الرياضية؛ أملاً في التعليق على مبارياته يوماً، ولم لا الالتقاء به والتحدث إليه، فكان لي ذلك سنة 2018.
في سنة 1988، دخلت مهنة الإعلام الرياضي من بوابة التلفزيون الجزائري، كان مارادونا آنذاك يصنع أفراح الأرجنتين ونابولي وكلِّ عشاق المتعة الكروية في كل مكان، فكانت الفرصة مواتية للعودة إلى الأرشيف وإعادة مشاهدة كل مبارياته السابقة، لأزداد عشقاً وإعجاباً واستمتاعاً بمن كان يوصف بالفتى الذهبي. تشاء الصدف أن يتم تكليفي في بداية مسيرتي المهنية، إعداد فقرة المختصرات الدولية بنشرات الأخبار والبرامج الرياضية، والتي لم تخلُ يوماً من صور وأخبار مارادونا فوق ملاعب الكرة وخارجها، وكم كانت كثيرةً آنذاك، خاصة بعد إحرازه أول لقب لفريقه نابولي سنة 1989، ثم بلوغه نهائي كأس العالم سنة 1990 في إيطاليا، بعدما أخرج منتخب البلد المنظم، ليخسر النهائي أمام الألمان ويذرف دموع طفل صغير ضيَّع دميته.
تلك الدموع دفعتني إلى إنجاز فيلم وثائقي سنة 1990، مدته ساعة من الزمن، يروي قصة حياة الفتى الذهبي منذ نشأته في الأحياء القصديرية الفقيرة للعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، ثم بداياته مع أرجنتينيوس جونيور، وبوكا جونيورز، ثم نادي برشلونة بعد مونديال إسبانيا 1982، إلى غاية أجمل وأروع سنوات مشواره الرياضي مع نادي نابولي الإيطالي من 1984 إلى 1991، مروراً بإنجازاته مع المنتخب الأرجنتيني في مونديال مكسيكو سنة 1986، الذي يبقى شاهداً على روائع فنية لم يسبقها مثيل، بعدما سجل فيه خمسة أهداف تبقى في التاريخ، وكاد يكرر السيناريو نفسه في مونديال إيطاليا 1990، الذي ذرف فيه دموعاً لم يشهد مثلها تاريخ نهائيات كأس العالم بعد خسارته أمام الألمان على الأراضي الإيطالية التي كتب فيها أجمل الصفحات مع نابولي.
الفيلم لم يقتصر على توثيق الألقاب والتتويجات، والأهداف الـ342 التي سجلها دييغو في 678 مباراة، من بينها مساهمته في 16 هدفاً بـ21 مباراة في نهائيات كأس العالم، بل تعدى ذلك للحديث عن مغامرات الرجل خارج المستطيل الأخضر وحكاياته مع عالم المنشطات والمخدرات وإدمانه تعاطي الكوكايين الذي أثر على مشواره الكروي والشخصي، لكنه لم ينقص شيئاً من عشق العاشقين الذين تعاطفوا معه كل مرة، بسبب الضغوطات التي كان يعيشها، وتعاطفوا معه حياً وميتاً في كل محطات حياته، التي ستكون سيناريوهات لأفلام وثائقية وسينمائية تؤرخ لمشوار وحياة اللاعب المليئة بالمغامرات والتحديات.
كان حلم حياتي التعليق على مباريات دييغو مارادونا والتقاءه يوماً، فكان لي ذلك عندما علقت على نهائي كأس الاتحاد الأوروبي الذي فاز فيه على نادي شتوتغارت الألماني سنة 1989، ثم نهائيات كأس العالم 1990 في إيطاليا، وبعدها مونديال 94 بالولايات المتحدة الأمريكية، ليأتي موعد اللقاء الأول بيننا في مونديال البرازيل 2014، لكنني لم أتمكن من الحديث إليه على انفراد، إلى أن حان موعد مونديال روسيا 2018 حين تجدد اللقاء وجهاً لوجه في أحد الفنادق المخصصة لوفد الفيفا، فكانت الصورة التذكارية وتبادل أطراف الحديث بحضور مترجم من الإيطالية إلى الإنجليزية، عبَّرت له فيها عن إعجابي بدييغو اللاعب منذ أن كنت صغيراً، وفرح عندما قلت له إنه كان السبب في زيادة عشقي للكرة ولمهنة التعليق، لأنني استمتعت بروائعه.
سأكون أنانياً لو قلت إنني حزنت أكثر من غيري على رحيل مارادونا “اللاعب” الذي رافقني في بداياتي المهنية، وقد أبالغ لو قلت في وصفه، إن الكرة لم تنجب قبله ولا بعده لاعباً من طرازه، أسعدَ كلَّ الناس فأجمع على حبه كلُّ الناس، وتأثر لرحيله حتى هؤلاء الأطفال الذين لم يعايشوا مهاراته وإبداعاته فوق ميادين الكرة، ولم يكتشفوه إلا من خلال المقاطع المجمعة لمبارياته، والتي تتناقلها القنوات التلفزيونية ووسائط التواصل الاجتماعي هذه الأيام، بعدما رحل عن ملاعب الحياة، ليبقى خالداً في ذاكرة كل الشعوب المحبة لكرة القدم، التي بكته في الأرجنتين ونابولي، وتأثرت لفقدانه البشريةُ جمعاء بشكل لم يسبقه مثيل، لأنه لم يكن مجرد لاعب، بل أسطورة أسعدت العالم أجمع، فأحبه القروي والبدوي؛ والمثقف والجاهل؛ والغني والفقير؛ والقوي والضعيف، وشكَّل قصة أثرت على مساري المهني.
حفيظ دراجي
عرب بوست 29 نوفمبر 2020