في عيد ثورة التحرير الجزائرية الذي يصادف الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني من كل سنة أرادت السلطة القائمة هذه المرة استغلال الرمزية لتنظيم الاستفتاء على تعديل الدستور في نفس اليوم اعتقاداً منها بأن الشعب الجزائري سيذهب بقوة إلى صناديق الاقتراع احتراماً لقدسية الذكرى، لكن كل المؤشرات تشير إلى أن غالبية الجزائريين سيعزفون عن المشاركة حفاظاً على قدسية ذكرى يراد لها أن تبقى مرتبطة فقط بواحدة من أعظم ثورات القرن العشرين دون غيرها من الأحداث أو المناسبات الانتخابية التي لا تلقى الإجماع، خاصة في هذه الظروف التي يميزها تمسك الجزائريين بحراكهم الذي صنعوه في الثاني والعشرين من شهر فبراير/شباط 2019، ولا يزال يسكن العقول والقلوب والنفوس، حتى ولو توقفت المسيرات السلمية والتجمعات والمظاهرات بسبب تداعيات تفشي فيروس كورونا وإجراءات الحظر والحجر التي فرضتها السلطات الجزائرية.
سلطة الأمر الواقع كما يصفها الجزائريون غذت بتحايلها الجديد وممارساتها القديمة نزعة الجزائريين نحو التمسك بحراكهم الذي أدى إلى ترحيل بوتفليقة وسجن بعض رموز نظامه، لكن دون حدوث التغيير المنشود في الأشخاص والسياسات والممارسات التي تجسدت مع الوقت في فرض انتخابات رئاسية تحت إشراف نفس النظام، شارك فيها ربع الهيئة الناخبة، وتعديل دستوري مطروح للاستفتاء اليوم، لا يلبي طموحات كل الشعب الجزائري في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، في انتظار استكمال الأجندة بالإعلان قريباً عن تنظيم انتخابات تشريعية مسبقة، وكأن الشعب الجزائري خاض حراكاً من أجل تغيير الدستور وليس تغيير النظام، وثار لأجل تنظيم استحقاقات تؤدي إلى تغيير واجهة النظام فقط وليس كل النظام.
في عيد ثورتهم لم يتردد الجزائريون في مختلف وسائط التواصل الاجتماعي عن تجديد الولاء والوفاء لرسالة شهداء ثورة الفاتح من نوفمبر، ومن ثم رسائل حراك شعبهم الوطني السلمي الذي زعزع عرش نظام شمولي، لن يرضى عن التغيير بديلاً ولن يكتفي بمجرد تجميل لواجهته بمساحيق وروتوشات لم تغير من واقع الجزائريين ولا الجزائر في الداخل والخارج على مدى عام ونصف، بل كرست الرداءة والفشل في تسيير شؤون الدولة، وزادت من حجم التضييق على المواطنين والنشطاء والصحفيين ومختلف وسائل الإعلام والجمعيات والأحزاب السياسية مما زاد من حجم الاحتقان في كل الأوساط.
حجم التذمر ازداد مع زيادة أعداد الاعتقالات والمحاكمات التي تعرض لها النشطاء، مقابل تزايد التصريحات المستفزة لمسؤولين في الحكومة تعودوا على سب الدين والوطن والشعب، مثلما فعل وزير الشباب والرياضة الذي تهكم منذ أيام على الجزائريين الذين يعارضون تعديل الدستور ودعاهم إلى “تغيير البلد” وكأن الجزائر تحولت إلى ملكية خاصة للسلطة القائمة، لتنقلب الآية من دعوة الجزائريين إلى رحيل النظام إلى دعوة النظام للجزائريين إلى الرحيل عن بلدهم، مما أثار ردود فعل غير مسبوقة في وسائط التواصل الاجتماعي تدعو الجزائريين إلى الاستعداد لمواصلة حراك المسيرات والاحتجاجات والمظاهرات في أقرب فرصة بمجرد تخفيف إجراءات الحظر والحجر والخنق والتضييق إدراكاً منهم بأن التغيير المنشود لن يتحقق مع بقايا نظام بقي وفياً لتقاليده في احتقار ذكاء الجزائريين وإهانتهم في كل مناسبة وبدون مناسبة كما كان يفعل في عهد بوتفليقة.
سلطة الأمر الواقع أرادت استغلال ذكرى ثورة نوفمبر/تشرين الثاني لتمرير مشروعها حتى في غياب الرئيس الذي تم نقله إلى ألمانيا الأسبوع الماضي للعلاج من تداعيات إصابته بوباء كورونا مما زاد من حجم التوتر والقلق، لكن الحراك الشعبي جعل منها مناسبة لتجديد النفس في المقاومة السلمية وبعث مبادرة جديدة أطلق عليها اسم “نداء 22” التي استقطبت جزائريين من كل الأطياف في الداخل والخارج تسعى للتشاور وتبادل الأفكار والاقتراحات لأجل مرافقة الحراك بالبحث عن صيغ جديدة للتعبير عن رفض سياسة الأمر الواقع.
الجزائريون أدركوا اليوم أهمية التمسك بحراكهم وعدم التفريط في تلك الهبة الشعبية السلمية التي لم يسبق لها مثيل، لكن سلطة الأمر الواقع بصدد تضييع فرصة توقف المسيرات والمظاهرات للاستجابة لتطلعات الشعب في بناء جزائر حديثة تستند على أسس ومعايير فكرية وأخلاقية وعلمية وتكنولوجية قوامها الحرية والعدالة الاجتماعية ودولة القانون، وليس تلك الجزائر الجديدة التي يروجون لها، لأنه لا يمكن تحقيق التجديد بوسائل وطرق ووجوه قديمة تحتكر الوطنية وتعتقد بأنها وصية على الشعب الذي يعتبر بدوره ثورة فبراير/شباط 2019 من ثورة نوفمبر/تشرين الثاني 1954 لذلك بقي مسلحاً بالعناد والإصرار على تحرير العباد بعد تحرير البلاد.
حفيظ دراجي
عربي بوست 1 نوفمبر 2020