عندما تقرأ بعض الصحف والمواقع، وتسمع وتشاهد بعض القنوات التلفزيونية العربية في تغطيتها لأطوار المحاكمة الجارية وقائعها في المحكمة الجنائية الفدرالية في سويسرا، والمتابع فيها الأمين العام الأسبق للاتحاد الدولي لكرة القدم الفرنسي جيروم فالك، ورئيس مجلس إدارة قنوات “بي إن سبورتس” السيد ناصر الخليفي بتهم مختلفة عن بعضها ترتبط بإدارة غير شفافة لملفات متنوعة، تدرك حجم الحقد والغل والتشفي والافتراء والتزوير لحقائق المرافعات وتفاصيلها التي يمارسها إعلام نصّب نفسه قاضياً، قام بإدانة المتهمين قبل انتهاء المحاكمة، وكأنه كان حاضرًا أثناء الجلسات داخل أروقة المحكمة، أو كأن بعضه كانوا شهود عيان على الوقائع التي تعود إلى سنوات خلت، ولم تفصل فيها المحكمة لحد الآن، ولن تفصل فيها قبل نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
بعض وسائل الإعلام العربية أصدرت حكمها قبل المحكمة وأدانت المتهمين قبل القضاء السويسري، في وقت سمعنا وقرأنا كلاماً لم تذكره وسيلة إعلامية غربية واحدة، سواء في فرنسا أو سويسرا، لأنها تعرف الحيثيات والجزئيات وكلّ التفاصيل، وتعرف حدود الضوابط المهنية والأخلاقية التي يجب أن تتحلى بها في الشؤون القضائية، خاصة الصحافة الفرنسية، التي لم تتردد يوماً في الكشف عن كل صغيرة وكبيرة تتعلق برئيس “بي أس جي” السيد ناصر الخليفي، الذي أزعج الكثير من الأوساط الإعلامية والرياضية في فرنسا على مدى العقد الأخير؛ بسبب الثورة التي أحدثها في الكرة الفرنسية والإزعاج الذي سببه نجاح النادي الباريسي في السيطرة على البطولات المحلية الفرنسية كلها.
لن أخوض في أطوار المحاكمة، ولن أطلق بدوري أحكاماً مسبقة بالإدانة أو البراءة، ما دامت الجلسات متواصلة، لكن الواجب المهني والأخلاقي يفرض علينا تنوير الرأي العام، وتكذيب تقارير بعض المنابر الإعلامية التي تحدثت عن تهم فساد ورشوة لم يوجهها القاضي نفسه للسيد ناصر الخليفي، وتحدثت عن اعتراف المتهمين بالرشوة والفساد، وهو الأمر الذي لم يحدث طيلة ما يقارب أسبوعاً من المحاكمة التي دارت حول شبهات سوء الإدارة الجزائية بالنسبة لناصر الخليفي، وإدارة غير شفافة لملف حقوق كأس العالم 2026 و2030 بالنسبة للأمين العام الأسبق جيروم فالك مصحوبة بشبهات فساد مالي، وهما قضيتان مختلفتان ومنفصلتان بالنسبة للمعنيين.
تهمة تسهيل حصول قنوات “بي إن سبورتس” على حقوق بث نهائيات كأس العالم 2026 و2030، وجهت إلى الأمين العام السابق لـ”فيفا” وليس لرئيس مجلس إدارة قنوات “بي إن سبورتس” التي دفعت مبلغ 480 مليون دولار آنذاك، ولم تجد منافسة من أي قناة أو مؤسسة أخرى، وبالتالي فإنّ الأمر لم يكن يستدعي دفع رشاوى من أجل الحصول على الحقوق، ولم يكن يستدعي من “فيفا” تقديم تسهيلات ما دام المبلغ المقترح ضخماً، ولم يسبق أن حصل عليه “فيفا” من قبل، كما أن مسألة بيع حقوق البث التلفزيوني لا تعني الأمين العام وحده أو حتى رئيس “فيفا” وحده، بل كل أعضاء المكتب التنفيذي واللجنة المالية للهيئة الكروية العالمية الذين يطلعون على العروض قبل المصادقة على القرارات بالإجماع.
الحقيقة أنّ لائحة الاتهامات التي سيوجهها النائب العام ستعرف رسمياً في جلسة الاستئناف الثلاثاء المقبل 22 سبتمبر/ أيلول، وبعدها سيأتي الدور على مرافعات دفاع المتهمين التي ستستمر إلى غاية الجمعة 25 سبتمبر/ أيلول، على أن يصدر الحكم في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ما يعني أن كلّ ما أثير لحد الآن في بعض الدكاكين الإعلامية هو مغالطات للرأي العام، تنم عن سوء نية وحقد وكراهية، تكرس رداءة إعلام عربي تحكمه المشاعر والذاتية أكثر من المهنية والموضوعية.بعيدا عن الملاعب
في قواميس القضاء والعدالة يقال إنّ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” لكن عند دكاكين الفتنة “البريء متهم حتى ولو ثبتت براءته”، وناصر الخليفي متهم لأنه شاب قطري ناجح في مهامه، لذلك راحت تدين الرجل وتصدر أحكامها المسبقة بالسجن في حقه، اعتقاداً منها بأنّ المحاكمة تجرى تحت إشراف ملك أو أمير أو ولي عهد أو وزير عدل عربي يتحكم في القضاء مثلما يتحكم في أرواح البشر وممتلكاتهم، ونسيت أنّ الأمر يتعلق بعدالة سويسرية بكلّ ما لها وعليها لأنه لا توجد عدالة مستقلة بالمطلق في العالم، لكن على الأقل لا يوجد ظلم مطلق مثلما هو عليه في الكثير من البلاد العربية التي تستعمل القضاء للانتقام وتصفية الحسابات، وليس لإحقاق الحق وإعطاء كلّ ذي حق حقه.
حفيظ دراجي
العربي الجديد 19 سبتمبر 2020