كلما عاد الكلاسيكو الى الواجهة عادت معه مظاهر التعصب في وطننا العربي لفريقين إسبانيين بشكل ملفت خاصة مع الشعبية الجارفة المتزايدة للبارسا والريال في أوساط جماهير الكرة عندنا لدرجة تفوق المعقول، وتصل الى حد الاحتقان والتطرف في التعبير عن مشاعر الفرح أو الغضب الذي لا نجده أصلا عند الإسبان ذاتهم، رغم الحساسية التاريخية والسياسية والفكرية بين جماهير الناديين، لكنها لم تتعد أبدا حدود اللعبة بالقدر الذي وصلته عندنا بين شباب يعاني الكبت والحرمان وغياب المتعة الكروية في فرق الدوريات المحلية، والنقص الفادح في وسائل الترفيه التي جعلت شبابنا متحمسا ومتعلقا بدوريات وأندية أوروبية أكثر من تعلقه بأندية ومنتخبات بلاده.
ما دفعني للخوض في الموضوع هذه المرة هي تلك الصورة التي عايشتها هذا الأسبوع في مدريد بعد نهاية مواجهة الريال مع برشلونة خارج أسوار الملعب بين أشباه مناصرين للفريقين، خليجيين وآخرين من شمال إفريقيا، وصل بهم التعصب إلى درجة الشجار العنيف الذي استدعى تدخل الشرطة أمام أنظار مناصرين إسبان أصابتهم الصدمة مما شاهدوه من مبالغة في الفرحة بفوز الريال والخيبة لخسارة البارسا، في وقت خرج المناصرون الإسبان سويا الى المطاعم والحانات وكأن شيئا لم يكن رغم أهمية المباراة بالنسبة لهم. الشيء ذاته حدث ويحدث في الكثير من البلاد العربية عند كل كلاسيكو لدرجة سقوط ضحايا بين الشباب، خاصة خلال السنوات القليلة الماضية، مما يثير الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول الظاهرة التي استفحلت، فصار الحزن على الخسارة يؤدي الى موت أصحابه، والاحتفال المبالغ فيه بالفوز يرافقه إطلاق الرصاص في الهواء في بعض البلدان.
صحيح أن أعداد جماهير البارسا والريال في الوطن العربي أكثر بكثير من جماهيرها في اسبانيا ذاتها بسبب الشعبية الجارفة والاهتمام الشعبي الكبير باللعبة، خاصة في عهد ميسي ورونالدو، صحيح أن المتعة التي يمنحها الفريقان لعشاق الكرة لا توازيها متعة كروية أخرى في البلاد العربية، لكن ذلك لا يعطي تلك الجماهير الحق في التعصب لهما أكثر من الإسبان في حد ذاتهم، ولا يعطيهم الحق في ممارسة كل مظاهر الحقد والكراهية والعداوة لدرجة تحول بعض عشاق البارسا الى مؤيدين لانفصال إقليم كتالونيا، وتحول عشاق الريال الى مساندين لإجراءات الحكومة اتجاه دعاة الانفصال، يتمنون الخسارة لبعضهم ويصبون غضبهم على بعضهم بعضا قبل المواجهة وبعدها بشكل غير مسبوق لم تعهده الأجيال السابقة من عشاق الكرة الأوروبية.
الظاهرة تصاعدت وصارت أكثر خطورة عند الجيل الحالي مع ظهور القنوات الرياضية العربية المتخصصة وشبكات التواصل الاجتماعي التي تحولت الى منابر لزيادة حدة التعصب وتبادل الشتائم والتشفي في جماهير الفريق الخاسر، ونقل الصور والفيديوهات والأخبار بسرعة فائقة تزيد من الاحتقان والتذمر بشكل مثير للاستغراب والحيرة عند الأوروبيين الذين لا يستوعبون لحد الأن تنامي الظاهرة وتفشيها في الكثير من البلاد العربية التي تريد لمستوى كرتنا المحلية أن تكون مثل البارسا والريال، ولا تريد لنفسها أن تقتدي بجماهير الفريقين في التعامل مع الفوز والخسارة والتحلي بالروح الرياضية التي يتحلى بها الأوربيون في مجال الكرة.
قد نتفهم تعصب الشباب لفرقهم المحلية ومنتخباتهم الوطنية، ونتفهم تعصبهم لبلدهم ودينهم وعرضهم، لكن التعصب لفرق اسبانية وإنكليزية وإيطالية بالشكل الحاصل اليوم صار يثير الاشمئزاز بعدما تفشت الظاهرة وتزايدت تداعياتها بشكل مؤسف، يستدعي عودة الجميع الى التعقل والاكتفاء بالاستمتاع بالكرة كلعبة تنتهي متعتها بمجرد انتهاء المباراة، سواء فاز الريال أو البارسا لأن الخاسر الكبير سيبقى شبابنا الذي يريد أن يكون إسبانياً أكثر من الإسبان، ويريد أن يكون ملكياً أكثر من الملك، أو كتالانياً أكثر من الكتالانيين في حد ذاتهم، لكنه لن يكون أبدا مهما انسلخ عن جلده الذي يبقى عربيا.
حفيظ دراجي
القدس العربي 4 مارس 2020