لا يزال تتويج المنتخب الجزائري بكاس أمم افريقيا في مصر يصنع الحدث في الجزائر والعالم بأسره بذلك الشكل الرائع وذلك التجاوب الجماهيري الفريد من نوعه والتعاطف العالمي مع منتخب كان متميزا بروحه التي لعب بها البطولة وصنع بها الفارق إضافة إلى مهارات لاعبيه وعزيمتهم وهوية اللعب التي رسمها المدرب جمال بلماضي في ظرف وجيز من الزمن صنع بها الفارق أمام منتخبات غينيا، كوت ديفوار ، نيحيريا ثم السنغال في نهائي كان صعبا، تحمل فيها المنتخب الجزائري عبئ المباراة بسبب تسجيله المبكر للهدف واستماته في الحفاظ على شباكه نظيفة، رغم أن أكبر المتفائلين كان يتوقع بلوغ الدور الثاني فقط في هذه البطولة وهو الذي خرج من سنوات عجاف ومرحلة صعبة تعرض فيها اللاعبون لكل أشكال التهديم والتشكيك منذ تألقهم في مونديال البرازيل.
كل الأرقام المسجلة والألقاب الفردية زادت من أحقية المنتخب الجزائري في التتويج بلقب البطولة بعد فوزه بلقب أفضل خط هجوم باثني عشر هدفا وأفضل خط دفاع بتلقيه لهدفين فقط، وكذا تتويج إسماعيل بن ناصر بلقب أفضل لاعب للدورة، وتواجد خمسة لاعبين في التشكيلة المثالية، وهي أرقام وتتويجات لبطل حقيقي حفزته الظروف التي تمر بها الجزائر منذ اشهر والحراك الشعبي الذي بعث روحا جديدة في نفوس الجزائريين، بما في ذلك اللاعبين الذين منحهم الشعب ثقته وساندهم ليثأروا من المشككين الذين لم يتوقفوا حتى أثناء البطولة عن تهكمهم على المدرب واللاعبين، ولم يكلفوا أنفسهم تشجيع الفريق والاعتراف بمجهوداته التي كانت بالمقابل مثيرة لإعجاب وتعاطف عشاق المستديرة في مصر وخارجها..
صحيح أن تتويج الجزائر باللقب القاري كان مفاجأة لكن لا أحد كان يتوقع ذلك قبل البطولة الا جمال بلماضي الذي وعد بالذهاب الى القاهرة من أجل المنافسة على اللقب لكن ما حصل لم يأتي من باب الصدفة أو الحظ، بل كان تكرارا لسيناريو سبق وأن حدث منذ تسعة وعشرين عاما عندما سجل المنتخب الجزائري نفس الرصيد من الأهداف (13) هدفا سنة 1990 وتلقى نفس عدد الأهداف (2)، كما كان مسجل هدف النهائي بغداد بونجاح هو مسجل هدف مباراة الافتتاح، وهو نفس سيناريو دورة 1990 التي سجل فيها (شريف أوجاني) هدفي الافتتاح والنهائي أيضا، أما الغريب في الأمر فهو تتويج الجزائر مباشرة بعد تتويج الكامرون في الدورة السابقة مثلما حدث سنة 1990 عندما خلفت الجزائر على العرش منتخب الكامرون المتوج سنة 1988 في المغرب.
أما أغرب ما في الموضوع فهو تتويج الجزائر باللقب سنة 1990 بعد الانتفاضة الشعبية لسنة 1988، ليتكرر التتويج إثر انتفاضة أخرى حدثت في الجزائر وأدت إلى ترحيل الرئيس بوتفليقة بعد عشرين سنة من الحكم، أما أغرب الصدف فقد كانت في تشابه ظروف التتويج حيث فازت الجزائر باللقب الأول بعد مشاركتين متتاليتين في كأس العالم 82 ثم 86 وغياب عن مونديال 90 في إيطاليا وهو السيناريو نفسه الذي حدث هذه المرة مع مشاركتين في كأس العالم 2010 و2014 ثم غياب عن مونديال روسيا 2018.
طبعا كل هذا قد يكون مجرد صدفة وتشابه أرقام ومحطات لكن الأكيد أنه لم يكن وليد الحظ ولا ينقص من قيمة التتويج والجهد المبذول، بل الأمر أسس لعوامل جديدة يجب أن تتوفر في افريقيا لأي منتخب يسعى للتتويج باللقب القاري والتي لا تقتصر فقط على المهارة الفردية والجماعية واللياقة البدنية والخطط التكتيكية، بل تكون فيها الرجولة و الروح الوطنية العالية والإصرار والعزيمة والحافز النفسي والمعنوي والذهني شروطا إضافية لتحقيق الفوز على كل المنافسين طيلة البطولة مهما كانت قوتهم وقدراتهم الفنية والبدنية.
الروح العالية صنعت الفارق عند الجزائريين ودفعت بالآلاف من المناصرين للالتحاق بالقاهرة تباعا لتشجيع المنتخب، وجلبت اعجاب وتعاطف ملايين المصريين الذين ساندوا المنتخب الجزائري بالرغم من الحساسية الكروية التاريخية بين البلدين والتي دفعت ببعض النفوس المريضة إلى محاولة إثارة أزمة جديدة عنوانها رياض محرز الذي طالب بشأنه أحد المحامين منعه من دخول تراب مصر بتهمة عدم مصافحته لرئيس الوزراء المصري رغم أنه فعل ذلك عندما صعد إلى المنصة لتسلم ميداليته في المرة الأولى، لكنه لم يكن مطالبا بإعادة مصافحة كل الرسميين عند تسلم التاج القاري.
ما فعله محاربو الصحراء أنهم حملوا صفة إسمهم ، وأكدوا بتتويجهم أن اعادة اكتشاف اللاعبين نفسهم وبقائد مغاير قد يحدث الوثبة وهو أمر ينسحب على جميع مجالات الحياة طبعا ، الصورة الحديثة للمنتخب الجزائري ستسمى مستقبلا بطفرة التغيير، هذا الجيل أنصف نفسه بالصمت وتكلم بالتتويج وأكد بأن الانجازات لن تقتصر على من سبقه محليا الى ذلك، محاربو الصحراء أكدوا أيضا أن في كرة القدم يكون العطاء مجزيا بقدر الإرادة مهما كانت الظروف..
حفيظ دراجي
القدس العربي 25 يوليو 2019