في ثالث أيام الحداد على أرواح ضحايا سقوط الطائرة العسكرية في الجزائر كان الموعد مع مباراة نصف نهائي كأس الجزائر بين الفريقين العريقين ش. القبائل و م. الجزائر على ملعب محايد في عاصمة الشرق الجزائري قسنطينة. مباراة كلاسيكية سبقتها وتخللتها أعمال شغب وعنف أصيب على إثرها المئات وكادت تودي بحياة العشرات، صورها تناقلتها مختلف وسائل الاعلام العالمية، وعلق عليها بعض الإعلاميين والمحللين في الجزائر بعنف مماثل وبشكل سطحي بعيد عن العقل والمنطق والواقع!صحيح أن اجراء مباراة كروية مهمة خلال أيام الحداد قبل أن ننتهي من دفن الضحايا هو أمر مستفز، لكن الاستفزاز الأكبر جاء في ردود أفعال بعض الإعلاميين والمحللين في مختلف المنابر الإعلامية والتي راحت ترد بعنف لفظي أكبر من اعمال العنف والشغب التي صنعها المناصرون.
اجراء مباراة كروية في يوم حداد هو فعل لا أخلاقي ولا مسؤول لأن الظرف يقتضي تأجيل كل المنافسات الرياضية والنشاطات الفنية والثقافية والترفيهية احتراما لأرواح الضحايا ومشاعر اسرهم وكل الجزائريين الذين آلمتهم الفاجعة وحجمها، لكن ذلك لم يكن السبب المباشر لكل أعمال العنف التي وقعت، والدعوة إلى التعامل بعنف مع الشباب الغاضب والمشاغب وتحميل مسؤولية أعمال العنف للأنصار فقط دون السلطات الأمنية والهيئات الرياضية، فيه اجحاف في حق شبابنا الذين صارت ملاعب الكرة متنفسهم الوحيد للتعبير عن مشاعر التذمر والغضب والحرمان الذي يعانون منه.
صحيح أيضا أن أعمال الشغب والعنف التي سبقت وتخللت مباراة الكأس ومباراة الدوري المتأخرة التي جرت في اليوم ذاته في وهران كانت مؤسفة ومخجلة لا يمكن تبريرها كونها لم تندلع بسبب الخسارة في المباراة، لكن هؤلاء الإعلاميين والمحللين الذين ظهروا بعد الأحداث ينددون بالممارسات ويدعون السلطات لمواجهتها باستعمال القوة وكل وسائل الردع هم أنفسهم الذين زرعوا الحقد والكراهية وساهموا في تذمر أولادنا ودفعوا بهم الى التعصب من خلال تحاليلهم وتعاليقهم وتصرفاتهم في مختلف المنابر والقنوات الخاصة التي فسحت المجال للصراخ والتهريج والتهييج واثارة الفتن بين المناصرين والمسيرين.
بعضهم راح يتفنن في إعطاء دروس في الأخلاق وفي كيفية التعامل مع ظاهرة العنف في الملاعب بطريقة سطحية بدون أدنى إشارة الى الأسباب والدوافع، وبدون التذكير بأن العنف هو ظاهرة اجتماعية متفشية في أوساط الأسرة والمدرسة والشارع وحتى في المسجد ولا تقتصر على الملاعب فقط، العنف هو ظاهرة عالمية لا يمكن مواجهتها ومعالجتها بالعنف المضاد ولا بالخطابات الشعبوية المغلفة بالجهوية والحقد والكراهية.
إنكلترا لم تقض على عنف الهوليغانز في الملاعب وخارجها ولم «تحاربه»، بل عالجته وتعاملت معه بالاحترام للقوانين وللكرامة الإنسانية، وبالتوعية والتثقيف والتعليم، بواسطة خبراء و مختصين واعلاميين ومحللين قاموا بدورهم الأخلاقي والتربوي، أما في الجزائر فان عنف جماهير الكرة في الملاعب يحمل خصوصيات ودوافع تختلف عن عنف وشغب الآخرين، فما ينطبق على الغير لا يسري علينا بحكم تركيبة جيل عاش سنوات الدم والدمار والقتل والعنف في التسعينات، وتركيبة مجتمع لا يزال متأثرا بجراح عميقة يجب أخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن الظاهرة وعند البحث عن معالجتها والتخفيف منها لأنه لا يمكن القضاء على ظاهرة العنف مثلما لا يمكن القضاء على كل الآفات الاجتماعية بل يمكن معالجتها والتخفيف منها بالبحث في أسبابها ودوافعها ومرافقة شبابنا بكل حب واحترام وتقدير وتفهم لظروفهم العصيبة.
أزمتنا الأخلاقية والفكرية والثقافية، والعنف اللفظي والنفسي والفكري والاجتماعي الذي يعيشه أولادنا أكبر بكثير من عنف جماهير الكرة التي تصرفت بشكل عدواني في قسنطينة قبل وأثناء المباراة وليس بعدها بسبب نتيجة المباراة وبالتالي فان تلك الجماهير التي انتفضت ضد بعضها البعض وضد رجال الامن كانت مهيأة نفسيا لفعل ذلك، وكانت متأثرة بكارثة سقوط الطائرة العسكرية ومتأثرة بكل اللغط الذي رافق اختيار ملعب يبعد بأكثر من 300 كلم عن العاصمة لإجراء مباراة كأس كان يمكن أن تجرى في ملعب يوفر كل الشروط الضرورية، وكان يمكن تأجيلها الى غاية انقضاء فترة الحداد.
لا أدعي معرفة كل الأسباب والدوافع التي تؤدي الى ممارسة العنف، ولا أدعي معرفة كل التدابير التي يجب اتخاذها للتقليل من حجم الظاهرة، لكن على الأقل في مجال اختصاصي الإعلامي يمكنني التأكيد على أن بعض المنابر الإعلامية غذت مشاعر الحقد والكراهية والجهوية وغاب عنها صوت العقل والفكر والحياد المهني حتى صار عنفنا أشد وطأة من عنفهم، لأننا ننهى عن عنف ونأتي بمثله، عارُ علينا بما فعلنا بأنفسنا قبل غيرنا!
نشر في القدس العربي في 18 أبريل 2018