«للمرة الأولى منذ قيامها ستبث دولة إسرائيل مباريات المونديال باللغة العربية»! هي جملة واحدة جاءت في صفحة غير موثقة على «فيسبوك» تحت اسم «إسرائيل تتكلم بالعربية».
الجملة أثارت ردود فعل كبيرة في الأوساط الإعلامية وساهمت في التشويش على المشاهد العربي واللعب على وتر مشاعره وعشقه للكرة، وسوقت لكيان محتل بأنه يريد خدمة المشاهد العربي بالمجان في وقت يمارس يوميا ومجانيا كل أنواع القتل والتشريد والتعذيب للمشاهد ذاته في الضفة الغربية وقطاع غزة ويسعى الى تدمير كل ما هو عربي ومسلم، ويساهم في خراب الكثير من البلدان العربية!
الجملة المذكورة، حتى لا أقول الخبر، تناقلتها للأسف وهللت لها قنوات تلفزيونية ووسائل اعلام ومواقع عربية بتقدير واحترام كبيرين لإسرائيل، وجعلت منها مادة إعلامية لتغليط الرأي العام العربي وايهامه بأن إسرائيل ستقدم خدمة مجانية لعشاق الكرة في مصر والأردن ولبنان والضفة الغربية، وراحت تهلل للأكذوبة وتعتبرها انتصارا للمشاهد العربي، وذهب بعض المنابر الاعلامية الى حد الكشف عن مبلغ اقتناء القناة التلفزيونية الإسرائيلية للحقوق «من روسيا» بمبلغ 6 ملايين يورو، علما أن الحقوق في المنطقة العربية كلها هي ملك لمجموعة «بي ان سبورتس» القطرية، التي اقتنتها من الفيفا منذ 2010 الى غاية 2026، مثلما اقتنت حقوق البث الحصرية للألعاب الأولمبية ونهائيات كأس أمم أوروبا وكل البطولات الأسيوية والافريقية وبطولات عالمية لرياضات مختلفة لأكثر من عشر سنوات قادمة.
التهليل الإعلامي العربي لم يكلف نفسه طرح تساؤلات بديهية بسيطة والاجابة عليها: منذ متى كانت إسرائيل كيانا يخدم المشاهد العربي؟ متى نقل تلفزيون إسرائيلي مباريات المونديال؟ متى كانت إسرائيل تحترم العرب ولغة الضاد حتى تبث مباريات المونديال باللغة العربية؟ منذ متى كان البلد المنظم للمونديال هو الذي يبيع الحقوق وبـ6 ملايين يورو؟ متى كانت الشعوب العربية «الحرة» تنتظر خدمة من إسرائيل حتى ولو كانت تتعلق بكرة القدم؟ هل تريد بعض الأطراف العربية تعميم التطبيع مع الكيان الصهيوني وجعله أمرا واقعا يجب قبوله من طرف الشعوب العربية عبر بوابة الكرة والمونديال؟
أسئلة كثيرة تتبادر الى الذهن وأجوبتها واضحة لا لبس فيها لدى الجماهير العربية، ولدى إسرائيل ومن يسوق لإنسانيتها وحنانها وعطفها على المشاهد العربي، والواقع أنه لا يمكن لإسرائيل ولا لأي قناة تلفزيونية في المنطقة وكل «القنوات الفضائية» اقتناء وبث مباريات المونديال في نفس المنطقة بدون المرور على مجموعة «بي ان سبورتس»، ومن يريد ذلك يمكنه التفاوض مع القناة القطرية من أجل البث الأرضي فقط لعدد محدود من المباريات مثلما تسعى لذلك مصر وتونس والمغرب وربما حتى المملكة العربية السعودية، وهي البلدان التي تشارك منتخباتها في روسيا، أما القناة الاسرائيلية المزعومة فلا يمكنها بث مباريات المونديال وباللغة العربية الا بموافقة مجموعة «بي ان سبورتس» التي لا يمكنها التنازل عن ذلك لإسرائيل ولو بمليار دولار مثالا لا حصرا للقيمة، علما أن محاولاتها لبث مونديال 2010 لقيت رفضا قاطعا من مجموعة «بي ان سبورتس» الإعلامية.
حتى ولو سلمنا بإمكانية افتراضية بث قناة إسرائيلية لمباريات المونديال باللغة العربية ويمكن متابعتها في مصر والأردن ولبنان وفلسطين، فان ذلك لا يمكنه أن يسعد الشعوب العربية، بل يسيء للحكومات العربية ويكشف عجزها المؤسف والمخزي عن شراء مباريات المونديال لشعوبها حتى ولو كلفها 200 مليون دولار، في وقت تنفق أموالها في بث قنوات اللهو والرذيلة والمجون، وتدفع المليارات في التسليح والكيد الصريح والمبطن لبعضها البعض، في وقت تغرق شعوبها في وحل الفقر والجهل والبطالة والبؤس والحرمان وكل الآفات الاجتماعية.
المؤسف والمخزي أيضا هو ترحيب بعض الإعلاميين ومن يحسبون على فئة المحللين والمختصين وتصديقهم للأكذوبة واعتبارها انتصارا للمشاهد العربي، وفي ذلك استخفاف بذكائه ووعيه بأن الكرة ليست كل شيء في الحياة ولا يمكن أن تنسينا قضيتنا الفلسطينية الأولى والأخيرة، وتنسينا غياب الحرية والديموقراطية والشفافية لدى أغلب الأنظمة العربية التي بعد إخفاقها في توفير حاجيات المواطن العربي المتزايدة راحت تستنجد ضمنيا وعلنيا بإسرائيل لتوفير مباريات منتخبات عربية مشاركة في المونديال. ما هو متعارف عليه أن للكذب يوما عالميا يحتفل فيه برمزية في الاول من أبريل/نيسان من كل سنة، لكن أن يصبح عقيدة كاذبة بأركانها الكاملة ومن دولة محتلة، ويتم تصديق ما تقوله حتى في الكرة، وجب علينا لتصديق ذلك أن نَكذِب على أنفسنا بأنها ليست إسرائيل المحتلة، ونقر بأن بعض الغباء هو الذي احتل العقول والقلوب في عالمنا العربي!
حفيظ دراجي
نشر في جريدة القدس العربي بتاريخ 15 مارس 2018