الصور التي تناقلتها شاشات التلفزيون عند عودة فقيد الجزائر حسين آيت أحمد إلى أرض الوطن، وعند تشييعه إلى مثواه الأخير في مسقط رأسه، وذلك التقدير الكبير الذي أظهره الشعب الجزائري لأحد زعمائه التاريخيين يؤكد بما لا يدع أي مجال للشك بأن هذا الشعب يدرك معدن الرجال مهما كذبنا وتحايلنا عليه، وبأن هذا الشعب لا يزال في حاجة إلى قائد حقيقي يحب شعبه ويقدره ويحترمه، ويتجاوب مع مشروعه ومبادئه قبل أن يكون في حاجة إلى الملبس والمأكل والمسكن والشعارات الجوفاء التي اختزلت الجزائر في شخص رجل واحد لم يعد قادرا حتى على مخاطبة شعبه!
بقدر ما كان الاستقبال الرسمي لجثمان الفقيد باهتا ومحتشما في المطار بعدما رفضت أسرة الفقيد كل أشكال الاستغلال السياسي من طرف السلطة، فإن الجنازة الشعبية كانت في مستوى قيمة الرجل الذي انحنى الشعب أمام روح الفقيد من دون أن يطلب منهم الرئيس ذلك مثلما طلبه من الوزراء الذين كانوا في حاجة إلى أمر من الرئيس للانحناء أمام روح رجل صار عظيما في نظر السلطة بعدما حكموا عليه بالإعدام وكادوا يحرمونه من جنسيته الجزائرية ودفعوا به إلى المنفى، وبعدما تعرض لكل أشكال التعتيم والتشويه، وكان في نظر السلطة معارضا للدولة وجهويا ومتعصبا، وكانوا هم المجاهدين والوطنيين والمخلصين!
الجنازة الشعبية التاريخية البعيدة عن البروتوكولات والرسميات والمعبرة عن مشاعر الاحترام والتقدير للرجل حملت الكثير من الرسائل الواضحة والمشفرة التي تدل على وعي وعظمة الشعب الجزائري الذي لا يمكن استغفاله مهما كذبنا عليه ومهما حجبنا عنه الحقائق وزورنا التاريخ، وبأن نفس التاريخ كفيل بإعادة الاعتبار للرجال الحقيقيين، وكفيل بأن يعاقب المزيفين والكاذبين ويكشف زيفهم ونفاقهم!
من خلال صور الوداع وشهادات الاعتراف بخصال آيت أحمد، ومشاعر الأسى والحزن التي بدت على كل أبناء الشعب في كل أنحاء الوطن تجاه الرجل تأكد لنا بأن هذا الشعب لايزال ببحث عن قائد يحبه ويتجاوب معه، ويستمع اليه ويشاهده ويشعر بوجوده، ويكون قدوة له في النزاهة والإخلاص والوفاء لرسالة الشهداء وتضحيات الشعب عبر التاريخ، ولايزال بحاجة الى قائد يتواضع لشعبه ويترفع عن تصفية حساباته مع من يختلف معه!
الشعب الذي ودع آيت أحمد بتلك الكيفية أراد أن يقول بأنه يفتقد قائداً حقيقيا يحمل مشروعا لبناء دولة الرجال والمؤسسات، وليس دولة الأشخاص التي تختزل الوطن في شخص رجل واحد وفكر واحد وحزب واحد، وأراد أن يوجه رسالة للأمة مفادها أن الشعب يريد قائدا وطنيا محاطا برجال أوفياء وأكفاء يقتدي بهم ويخدمونه بإخلاص، ولا يستفزونه ولا يحتقرون ذكاءه!
الشعب الجزائري الذي يشعر اليوم بالخوف على مستقبله بسبب الفراغ الرهيب في أعلى هرم السلطة، ويشعر بأن وطنه مهدد من الداخل قبل الخارج بسبب الفشل في بناء الدولة، أكد بأنه في حاجة ماسة إلى قائد قوي يجسد إرادة الشعب، يكون قدوة في الوطنية وليس الجهوية، يجمع ولا يشتت، يوحد ولا يفرق، ويستمد شرعيته من الإرادة الشعبية ويرتكز على سيادة القانون ومبادئ الديموقراطية ولا يستند على الرديئين والمنتفعين وأصحاب المال الفاسد الذين أفسدوا الأخلاق والقيم ونهبوا المال العام وتسببوا في أزمات متعددة.
الشعب الجزائري الذي شيع الزعيم حسين آيت أحمد بتلك الطريقة، عبر في المقابل عن رفضه للسيناريو الغامض الحاصل اليوم، وأكد بأنه صار في أمس الحاجة إلى قلب يحكمه وليس إلى عقل يتحكم فيه، وصار في حاجة إلى رجاله ورموزه ونخبته الوطنية النقية والكفأة التي تنبذ الحقد والكراهية والإقصاء، وتنبذ الجهوية والدكتاتورية، وتؤمن بأن الجزائر يبنيها الجميع وليس ثلاثة أشخاص يتحكمون في رقاب الناس ويحكمون من خلف الستار، ويعتقدون بأن الجزائر ملكية شخصية يتصرفون فيها كما يريدون!
حفيظ دراجي
نشر في موقع كل شيئ عن الجزائر بتاريخ 4 يناير 2016