بمناسبة مناقشة قانون المالية 2016 وما ترتب عنه من تداعيات، استوقفني مثل غيري هذه الأيام تزايد الحديث في الجزائر عن المال ورجال الأعمال والمؤسسات والمشاريع والإنجازات المادية وكأن المجتمعات والأمم وحتى الدول تبنى فقط بالمال والاستثمار في المشاريع الاقتصادية دون غيرها من مشاريع التنمية البشرية والفكرية والعلمية والصحية، ودون تثمين للقيم واهتمام بالقدوة وبناء للأسرة باعتبارها الخلية الأساسية في المجتمع.
السلطة والمعارضة والصحافة وفئات كثيرة من المجتمع انشغلت كلها بالأسعار والأرقام وتكاليف الانفاق والعوائد، ونسيت بأن الاهتمام بالبشر هو أولى وأهم لأن الإنسان هو الذي يصنع الحضارة ويشيد المرافق، ويبني المستقبل وهو رأس المال الحقيقي الذي ترتكز عليه كل الأمم؛ وراحت تستثمر في العنصر البشري قبل الصناعة والفلاحة والسياحة.
كم من أمم ليس لها بترول ولا غاز ولا موارد طبيعية ومادية، لكنها تحتل المراتب الأولى في التنمية لأنها اهتمت ببناء الإنسان على أسس أخلاقية وفكرية وحضارية وعلمية، واهتمت بالأسرة والمدرسة والطفل والمرأة، وطورت منظومتها الصحية والاجتماعية قبل الاقتصادية والمالية، وبلغت فيها نسبة النمو أعلى معدلاتها مما ساهم في استقرار تلك الدول ونموها!
رغم أن ديننا يدعونا للاهتمام ببناء الفرد والاهتمام بالطفل والمرأة والأسرة لكننا انشغلنا بالأمور المادية على الفكرية والثقافية والعلمية فتفشىت فينا مساوئ الأخلاق وارتفعت نسبة الطلاق والجريمة والعنف ضد المرأة وضد الأطفال، وتراجعت منظومتنا التربوية والصحية والثقافية، فصارت مجتمعاتنا هشة ومتخلفة ومعرضة لكل الأزمات.
اهتمام الآخرين بالإنسان تجسد في الاهتمام بالقدوة وتثمين مجهوداتها وإنجازاتها، في وقت انقلبت عندنا المعايير وصرنا نقتدي بالفاشلين والرديئين وأصحاب المال والمناصب عوض الدفع بالكفاءات من العلماء والمفكرين والناجحين في مختلف المجالات لنجعل منهم قدوة للآخرين بدل التشكيك فيهم وتخوينهم، والتقليل من شأنهم حتى لا تصغي إليهم الأجيال الصاعدة ولا تقتدي بهم!
المعلم والإمام والأب والأم لم يعد لهم شأن في المجتمع، والأسرة والمدرسة والمسجد تخلت عن رسائلها وفقدت مصداقيتها، وجمعيات المجتمع المدني والمنظمات الجماهيرية انشغلت بالسياسة، وتخلت عن مهامها في التأطير والتنظيم والتوعية ومساعدة كل الفئات الاجتماعية على تجاوز مشاكلها عوض المساهمة في بناء الإنسان الذي يبقى من مسؤوليتها كما هو من مسؤولية مؤسسات الدولة!
كل الجزائريين اليوم يتحدثون فقط عن قانون المالية والاستثمارات والأموال والخسائر والأرباح جراء انخفاض أسعار البترول وتراجع قيمة الدينار وارتفاع نسبة التضخم وأسعار المواد الأولية وكأننا خلقنا من أجل ملء بطوننا وجيوبنا فقط؛ في وقت راحت الأمم الأخرى تحسب الربح والخسارة بمعايير أخرى لا تزول ولا تنتهي!
القضية إذن ليست قضية أموال وموارد وثروات مادية بل هي مسألة أخلاقية وعلمية وفكرية وحضارية كان لابد من إعطائها الأولوية في بناء الفرد والمجتمع على أسس تسمح لنا بتجاوز كل الصعاب المترتبة عن الصعوبات المادية التي تواجهنا، وكان علينا أن نهتم بالأم والمعلم والقدوة باعتبارهم أطراف معادلة لا يمكن سوى أن تكون رابحة على المدى الطويل!
حفيظ دراجي
نشر في يومية الشروق بتاريخ 6 ديسمبر 2015