على الرغم من أن آخر زيارة لي للجزائر كانت قبل شهرين فقط، فقد كنت أتمنى أن أجدها أحسن مما تركتها عليه آخر مرة، وأجد أبناء بلدي أيضًا مقبلين على الحياة، متفائلين بالمستقبل، ومطمئنين على أبنائهم الذين عادوا إلى مقاعد الدراسة، وعادوا إلى ممارسة نشاطاتهم بعد عطلة فصل الصيف، لكنني وجدت الجزائر تعيسة وأبناءها قلقين ومتذمرين ومتخوفين من هذا الذي يقال ويثار في مختلف الأوساط بسبب تخبط “الجماعة” وفشلهم في تحقيق التنمية وبناء الدولة نتيجة انخفاض أسعار النفط وقيمة الدينار وتراجع المداخيل وارتفاع نسبة التضخم والجريمة، وتفشي مظاهر البؤس والخوف!
حتى عشاق الكرة والمنتخب الوطني لكرة القدم وجدتهم في حيرة من أمرهم، متخوفين من تراجع أداء الخضر قبيل مواجهة تانزانيا بعدما كان المنتخب نفسه بالنسبة إليهم مصدر اعتزاز وافتخار وطمأنينة لسنوات طويلة، وبعدما كان متنفسا لهم يهربون إليه من هموم يومياتهم ومتاعبها، مما زاد من اتساع رقعة المتذمرين والتعساء.
مستعملو الطرقات في العاصمة وجدتهم من أكثر المتذمرين لأنهم يقضون أيامهم داخل سياراتهم في زحمة المرور التي لم يعد لها أول ولا آخر، وأشغالهم معطلة بشكل لم يسبق لها مثيل على الرغم من توفر خدمات الميترو والترامواي في بعض المناطق، لكن عندما ترى الزحمة في كل وقت ينتابك الاعتقاد بأن لا أحد يعمل في هذه الجزائر، ولا أحد يحترم قانون المرور، وبأننا لم ننفق دولارا واحدا على مشاريع تهيئة الطرقات وبناء المرافق!
الساسة الذين التقيتهم سواء كانوا في الموالاة أو المعارضة لا يختلفون عن بعضهم في مشاعر التذمر والتخوف والشك، والإطارات الذين تبادلت معهم أطراف الحديث لا يختلفون عن بعضهم بعض أيضًا، ولا أحد منهم يعرف إلى أين تتجه الجزائر في ظل الغموض والتحايل والتخويف والتهديد الذي يتعرض له الشرفاء، خاصة بعد سلسلة الإقالات التي مست الإطارات ورجال المخابرات في تصفية حسابات لم يسبق لها مثيل، وبعد سلسلة الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي تخدم أصحاب المال والشركات الفرنسية التي أنقذتها الجزائر من الإفلاس، وأغرقتنا في تراجع قيمة الدينار وارتفاع نسبة التضخم!
أغلب الذين التقيت بهم يفكرون في الهجرة لأنهم لا يثقون في السلطة خاصة أولئك الذين خدموا الوطن لسنوات طويلة، ولم يعد لديهم أدنى ايمان بصدق النوايا وصدق مشروع الدولة المدنية الذي تحدثت عنها “الجماعة”، بل لمست إجماعًا على أن الأمر يتعلق بتحايل جديد يهدف من خلاله أصحابه إلى تحطيم ما تبقى من أركان هذه الدولة، وإخضاع شعبها للأمر الواقع، والاستمرار في الاستحواذ على الجزائر بكل الطرق حتى ولو من خلال استفزاز الشعب لإعادة خلط الأوراق وإعادة توزيع الأدوار بعد ذلك!
ربما وجودي في الجزائر الذي صادف انقطاع خدمات الإنترنت لبضعة أيام زاد من مشاعر التذمر في أوساط أبنائنا، لكن الأكيد أن التعاسة كانت بادية حتى على جدران البنايات السكنية والإدارية، وبادية على وجوه رجال الشرطة والدرك والموظفين البسطاء، وعلى وجوه الرجال والنساء الذي فقدوا ثقتهم في وعود السلطة، لكنهم لم يفقدوا الأمل في انتصار دولة المؤسسات على منطق اللادولة الذي يخيم على كل الممارسات!
بحثت طيلة أسبوع كامل عن الجزائر التي يتحدث عنها عمار سعيداني وعمار غول وعبد السلام بوشوارب في خطاباتهم؛ فلم أجدها، بل وجدت التعاسة في وجوه المارة والجالسين، والعاملين والبطالين، والمرضى والرياضيين، والأغنياء والفقراء لأن الكل حائر وقلق على الجزائر، والكل متخوف من المستقبل بسبب انعدام الثقة وانسداد الآفاق، كما لاحظت تعاسة إضافية على العاصمة بعد السادسة مساء من كل يوم لأن الحياة فيها متوقفة بعدما يهرب سكانها إلى بيوتهم وكأنهم يعيشون حظر التجوال.
هذه التعاسة شاهدتها تمشي، وسمعتها تتكلم في العاصمة وضواحيها، ولكم أن تتصوروا حجم التعاسة التي يعيشها أبناؤنا في مختلف مناطق الوطن الأخرى للأسباب نفسها وأسباب أخرى جعلت شعبًا بحجم الشعب الجزائري منشغلاً فقط بالأكل والنوم دون غيرهما من الحاجيات الأساسية التي تهتم بها بقية الشعوب!
لقد كان من المفروض أن تكون جزائر اليوم في أفضل حال، ويكون الجزائريون فيها سعداء بفضل ثرواتنا وخيراتنا ومواردنا المالية، وطاقاتنا الشبانية التي تستحق وطنا أفضل مما هو عليه اليوم، وتستحق انتقالا إلى جمهورية ثانية يعامل فيه الفرد على أنه مواطن، ويعيش فيها المواطنون في كنف الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون وليس سيادة الأشخاص وتغول رجال المال! لكن للأسف تعود علينا ذكرى ثورة الفاتح نوفمبر والجزائر تعيسة وكئيبة، وأبناؤها غارقون في دوامة التخلف والحقد والشك والخوف من المستقبل الذي يغامر به من لا يقدرون على تسيير بلدية واحدة فما بالكم ببلد بحجم الجزائر!
حفيظ دراجي
نشر في موقع كل شيئ عن الجزائر بتاريخ 2 نوفمبر 2015