بعد رحيل الفريق محمد مدين من على رأس جهاز المخابرات استكمالا لأجندة فرنسا مع الرئيس ومن معه ومن خلفه وأمامه! واستكمالا لمشروع التوريث الذي تتوجه نحوه الجزائر دون أدنى شك، لا تزال حيثيات الرحيل وأسبابه وتداعياته تثير الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام في الأوساط الشعبية والسياسية والإعلامية المحلية والدولية، رغم أن الأمر كان مرتقبا، وكان يمكن أن يكون تغييرا عاديا لو تحلى أصحابه بثقافة الدولة، ولو كانت فعلا الغاية هي التوجه نحو بناء الدولة المدنية القوية بمؤسساتها وقوانينها!
الذهاب نحو الدولة المدنية هو حق أريد به باطل في تقدير الكثير من التحاليل التي أجمعت على أن رحيل الفريق محمد مدين هو تفعيل وتجسيد لمخطط فال دوغراس الذي خطط له الرئيس وشقيقه مع فرنسا، وذهبت تحاليل أخرى إلى الحديث عن استقالة الفريق وليس إقالة، في حين تحدثت بعض التقارير الإعلامية عن اتفاق بين بوتفليقة يقضي برحيل الرجلين وإجراء انتخابات رئاسية مسبقة بداية السنة المقبلة. لكن مهما كانت التحاليل فإن الأكيد أن ثمة أمرا ما عجل برحيل التوفيق بهذا الشكل بعد مسلسل التغييرات في المؤسسة العسكرية، وإقالة كل قادة المخابرات وتفكيك الجهاز لمحو آثار ملفات الفساد التي تورط فيها محيط الرئيس والمقربون منه ثم استكمال سيناريو التوريث.
قليلة هي التحاليل التي أجمعت على أن المكر والخداع تغلب على الحكمة والثقة، خاصة بعدما قلد الرئيس الفريق محمد مدين وسام الشجاعة منذ بضعة أسابيع، وقليلة هي التحاليل التي تساءلت إن كان تفكيك جهاز المخابرات وإضعافه سيقودنا فعلا إلى الدولة المدنية الموعودة، أم يقودنا إلى عهد “اللادولة” الذي سيشهد تسلط الأشخاص المدنيين ورجال المال الفاسد الذين لن يترددوا في إضعاف المؤسسة العسكرية وإقالة الرئيس بوتفليقة ذاته للاستيلاء على السلطة والتربع على عرش الجزائر!
الجزائريون يعيشون أياما عصيبة جعلتهم ينقسمون بين مؤيد ومعارض لما يحدث في جهاز المخابرات منذ فترة، وأسرة المؤسسة العسكرية سكنها الشك والخوف من التململ وانهيار المعنويات خاصة وأن الكل يدرك بأن مشاكل الجزائر ليست في الجنرال التوفيق وجهاز المخابرات والمؤسسة العسكرية بقدر ما هي في عجز الرئيس عن أداء مهامه، وتفويض صلاحياته لشقيقه، وفي شلل الدولة بمؤسساتها وغياب مشروع المجتمع، واستمرار تلك الوجوه المستفزة في مواقعها رغم فشلها في بناء الدولة وتحقيق التنمية الشاملة.
مرددو أسطوانة أكذوبة الدولة المدنية لن يترددوا في استكمال باقي حلقات سيناريو “فال دوغراس” بإحالة قائد الأركان على التقاعد بعد فترة وجيزة لتعويضه بالجنرال علي بن علي القائد الحالي للحرس الجمهوري، ويحال بدوره بشير طرطاق الوافد الجديد على جهاز المخابرات إلى التقاعد أيضا ليتم إلحاق الجهاز بالمديرية العامة للأمن الوطني، سيتم بعدها الاستغناء عن عبد المالك سلال كوزير أول، وعن أحمد أويحيى من ديوان الرئاسة والأمانة العامة لحزب الأرندي. وبعد ذلك يعلن الرئيس عن تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة يترشح لها شقيقه السعيد بوتفليقة كشخصية مستقلة يلتف حوله أفلان سعيداني والتجمع الوطني الديموقراطي بقيادة عبد السلام بوشوارب وبقية الأحزاب المجهرية الأخرى، وجمعيات المجتمع المدني التي استفادت من الريع، وتستفيد من المنظومة القائمة.
إذا شعرت الجماعة بأن ترشيح السعيد بوتفليقة يلقى “معارضة شعبية” سيتم ترشيح أحد المقربين من الرئيس وشقيقه رغم أنهما لا يثقان في أحد. قبل ذلك سيتم الإفراج قريبا عن مشروع تعديل الدستور بالشكل الذي يريده بوتفليقة، وسيجري الرئيس تعديلا حكوميا واسعا، وتغييرات أخرى على كثير من أجهزة الدولة التي سيضع على رأسها السعيد بوتفليقة رجاله، ويقصي كل الكفاءات والرجال الذين يمكن أن يقولوا له ” لا” لتعويض حكم العسكر بحكم العائلة المستبدة وحكم مافيا المال التي لا تشبع!
الدولة المدنية التي تخطط لها الجماعة هي دولة السعيد بوتفليقة والجهوية المقيتة ورجال المال الفاسد و”بني وي وي” وكل الرديئين والفاشلين الذين أوهموا الشعب بأن الفريق محمد مدين وجهاز المخابرات والمؤسسة العسكرية كانوا سبب كل المشاكل التي تعرقل بناء الدولة وتطورها، لكنهم لا يدركون بأنهم سيتعرون بعد ذلك ولن يجدوا شماعة يعلقون عليها أزمة الثقة التي تعيشها الجزائر، وكل الأزمات السياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تتخبط فيها دولة بدون مؤسسات بعدما نزعت منها كل الصلاحيات، وبعدما عين على رأسها بوتفليقة الجبناء والرديئين ليتصرف فيهم كما يشاء!
صحيح أن التاريخ سيذكر بان بوتفليقة أحال الجنرال التوفيق على التقاعد وفكك جهاز المخابرات بدعم من الخارج لتسهل عملية اضعاف الجزائر وتفكيكها، وسيذكر أيضا بأنه انقلب على كل الذين ساندوه ووقفوا معه، وانشغل بالقضاء على معارضيه وملاحقتهم طيلة 15 عاما، وسيذكر التاريخ بأنه لم يبنِ الوطن ولم ينعش الاقتصاد الوطني، وكسر مؤسسات الجمهورية، وبأن فترة حكمه شهدت أكبر فضائح الفساد والنهب، وشهدت تغول شقيقه ومافيا المال والرديئين الذي صاروا يتحكمون في شؤون البلد ورقاب الناس، وفي ثروات البلد وخيراته.
الدولة المدنية المنشودة هي هدية مسمومة للشعب الذي انشغل بمسلسل الإقالات والتعيينات، وانشغل بالمغالطات التي تسربها الجماعة، ونسي بأن الدولة تسير من دون رئيس ومن دون مؤسسات تشريعية وقضائية وتنفيذية، وبأننا نعيش من دون مشروع مجتمع، ودون نقابات قوية واعلام حر وحراك سياسي وفكري، ودون آفاق مستقبلية في بلد يتوجه نحو التضييق على الصحافة المستقلة والمعارضة بشكل لم يسبق له مثيل، ويتوجه نحو التستر على كل ملفات الفساد، ومزيد من الفساد ونهب المال العام دون رقيب، ما يقودنا الى أزمات متعددة الأوجه قد تطيح بالدولة التي ضحى من أجلها الرجال ويعبث بها المغامرون!
حفيظ دراجي
نشر في موقع كل شيئ عن الجزائر بتاريخ 21 سبتمبر 2015