بعيدًا عن القراءات السياسية المختلفة لسلسلة الإقالات والتعيينات التي أجراها بوتفليقة مؤخرًا على مستوى الجيش والحكومة ومختلف الهيئات والإدارات، والتي أراد من خلالها الرئيس أن يوجه من خلالها رسالة إلى الداخل والخارج بأنه هو من يقرر ويحكم، فإن الكيفية التي تمت بها أعادت إلى الأذهان تلك الممارسات السياسية والأخلاقية والدبلوماسية التي ينتهجها بوتفليقة منذ مجيئه إلى الرئاسة سنة 99، والتي جعلت من إطارات الدولة مجرد دمى يتلاعب بها محيط الرئيس ويهينها كما يشاء سواء عند تعيينها أو إنهاء مهامها في مختلف المواقع.
صحيح أن الدستور الجزائري يمنح الرئيس سلطة تعيين إطارات الدولة المدنية والعسكرية، وسلطة إنهاء مهامها من دون الحاجة إلى تقديم تبريرات، لكن الدستور نفسه لا يمنحه الحق في إهانتهم، ولا يمنحه الحق في المساس بكرامتهم، والمساس بالسير العادي للمؤسسات، كما أن استعمال هذه الصلاحيات من طرف بوتفليقة ومحيطه الضيق تميزت عبر الزمن بتجاوزات غير مقبولة وغير معقولة، وبعيدة تمامًا عن ثقافة الدولة وممارسات رجال الدولة في جمهورية ديموقراطية وشعبية!
صحيح أيضًا أن الرئيس غير مطالب بتقديم التبريرات للقرارات التي يتخذها والتعيينات أو الإقالات التي يقدم عليها، ومن حقه محاسبة من يكلفهم بمختلف المهام بالقانون، ولكن إطارات الدولة ليسوا غلمانًا وليسوا عبيدًا أو موظفين عنده، وكرامتهم من كرامة الجزائر والجزائريين، ولا يحق لأي كان مهما كان أن يهين الوزير والمدير والسفير وقادة الجيش، ويهين مؤسسات الجمهورية ويحط من قيمتها، أو ينتزع منها كل الصلاحيات ويمنحها لأقربائه والمقربين منه، في سيناريو وكأنه مقصود يراد منه إهانة الجمهورية، وإهانة الكفاءات، وتشجيع الرداءة لتحطيم الجزائر!
على مدى 15 سنة من الحكم أقال بوتفليقة رؤساء حكومات وعين آخرين؛ من دون أن يكلف نفسه عناء استقبالهم أو الاتصال بهم هاتفيا لتقديم الشكر لهم أو معاتبتهم، وعين وأقال وزراء لم يكلمهم ولم يصافحهم في حياته، ولا يعرف عنهم سوى الجهة التي ينحدرون منها، ومدى طاعتهم لشقيقه ومستشاره الخاص!
لقد كان ولا يزال الرئيس يحتقر الوزراء خاصة أشد الأوفياء له ويعطيهم الثقة والأمان، ولكن يقيلهم ثم يعيد تعيينهم لاحقًا في مواقع أخرى، حتى إنه في إحدى المرات استقبل أحد الوزراء في بيته العائلي وعبر له عن علاقات الأخوة التي تربطهما، وعن احترامه له وثقته فيه، ولكنه في اليوم الموالي فاجأه بإقالته من منصبه. كما أن عددًا كبيرًا من الوزراء علموا بقرارات إقالتهم عن طريق الصحافة، وبواسطة مساعديهم أو حتى سكرتيراتهم، في وقت تم تعيين آخرين بمكالمة هاتفية، أو عن طريق نشرة الأخبار الرئيسية.
أما المديرين العامين لمختلف الهيئات فقد كان الرئيس ولا يزال يعتبرهم موظفين عنده وعند شقيقه ومستشاره الخاص، ويعتبرهم مجرد ديكور يضعهم في مواقع، ثم يقيلهم ويعينهم في مواقع أخرى حسب الولاء والانتماء، وليس حسب كفاءاتهم وقدراتهم وإنجازاتهم، ويجردهم من كل الصلاحيات، ومن يشم فيهم رائحة الرجولة يسلط عليهم من يهينهم ويشوه سمعتهم.
مع قادة الجيش وإطاراتها استعمل الرئيس كل مرة الممارسات نفسها لاستعراض قوته وسلطته ومحاولة الظهور أمام الرأي العام الداخلي والعالمي بأنه صاحب كل الصلاحيات، ولا أحد ينازعه فيها، مستغلًا انضباط رجال المؤسسة العسكرية والتزامهم، وعمل الرئيس على الإطاحة بالقادة الملتزمين والمنضبطين الذين أنقذوا الجمهورية، والإطاحة بكل رجال المخابرات انتقامًا من الجهاز الذي كشف تورط محيط الرئيس في قضايا الفساد، وحرمه سابق من خلافة بومدين سنة 79!
جميل جدا أن يكون الرئيس هو صاحب كل الصلاحيات، ولا يكون ثلاثة أرباع الرئيس كما كان يرفض أن يكون بوتفليقة، وجميل جدا أن يكون صاحب قرارات تعيين الإطارات والمسؤولين واقالتهم، لكن الأجمل أن يتم ذلك بكل أدب واحترام وتقدير للرجال والمؤسسات، والأجمل أيضا أن يكون التغيير في مصلحة الوطن، وأن يتحمل الرئيس تبعات قراراته وكل المسؤوليات في كل الحالات الإيجابية والسلبية منها.
جميل جدا أيضًا أن يتم التغيير والتجديد في مختلف هياكل الدولة، لكن ليس التغيير الاستعراضي من أجل التغيير كل 6 أشهر من دون فائدة ومن دون معنى، وليس تغيير كل من ينتمون إلى جهة من الوطن لصالح أبناء جهة أخرى، لأن الجزائر ضحى من أجلها الجميع ويبنيها الجميع، والجزائر ليست ملكية خاصة، والجزائريون ليسوا عبيدًا أو قطيعًا من الغنم!
لقد أنجبت الجزائر رجالًا شرفاء وأكفاء قاموا بواجبهم على أكمل وجه في الظروف الصعبة التي مرت بها الجزائر، وأنجبت رجالًا كانوا نزهاء وأوفياء للرجال وللوطن، لم يخونوا ولم ينهبوا ولم يقصروا في واجباتهم، والجزائر هي فعلا بحاجة إلى تغيير، لكن في الذهنيات والممارسات والسياسات، وتغيير الفاشلين والرديئين والمنتفعين بالرجال الحقيقيين الذين يخدمون الوطن، ولا شيء آخر غير الوطن.، كل الوطن وليس جزءاً من الوطن!
حفيظ دراجي
نشر في موقع كل شيئ عن الجزائر بتاريخ 27 جويلية 2015