تكرار الحديث عن الدولة المدنية المزعومة هذه الأيام قادني للبحث في كتب السياسة والتاريخ، ونظريات الساسة والمفكرين لمعرفة معنى ومغزى هذه الدولة المدنية عند أصحابها، فاكتشفت نظريات وتجارب مثالية لا علاقة لها بنظرتنا وتصورنا لهذه الدولة، واكتشفت بأن الأمر عندنا يتعلق بتحايل جديد، وبحق يراد به باطل لأن الدولة المدنية في مفهوم البلدان الديموقراطية هي دولة الحق وليست دولة الباطل، وهي دولة القانون وليست دولة الظلم، وهي دولة المؤسسات والقيم وليست دولة الأفراد والفساد!
لقد وجدت بأن الدولة المدنية في المفهوم السياسي المتعارف عليه في كل قواميس العالم وفي كل الدول والمجتمعات عبر التاريخ هي دولة القانون التي تحافظ وتحمي كل أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية، وتقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث تضمن حقوق جميع المواطنين، ولا يخضع فيها أي فرد لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما تنتهك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك.
من مبادئ الدولة المدنية أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو دينه أو إقليمه أو ماله أو سلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه “مواطن”، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين. أيضا من أهم مبادئها أن تتأسس على نظام مدني من العلاقات، حيث إن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهي ثقافة تتأسس على مبدأ وجود حد أدنى من القواعد يتم اعتبارها خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها.
لا أحد من الجزائريين يختلف مع كل هذه المبادئ، ولا أحد يرفض بلوغ هذه الدولة “المثالية”، لكنني متأكد من أن لا أحد من دعاة الدولة المدنية في الجزائر يدرك هذه المعاني ويهدف إلى تحقيق هذه المثل في مشروع الدولة المدنية التي رفع شعارها عمار سعيداني بإيعاز من السعيد بوتفليقة، وكان القصد منها التخلص من الجنرال التوفيق وتفكيك جهاز المخابرات وتحطيم مؤسسات الدولة وإقالة واعتقال وتخويف وتهديد كل من يختلف مع الجماعة التي تحالفت مع مافيا المال، وتريد التستر على فضائح الفساد.
الدولة المدنية عند الآخرين هي دولة المؤسسات والحق والقانون والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، أما المقصود من الدولة المدنية على الطريقة الجزائرية فهو منطق “اللادولة” الذي تجتمع فيها كل السلطات بين يدي زعيم جديد من دون منصب تنفيذي وقانوني يستقوي بالخارج ليتحكم في الجيش وباقي المؤسسات بمساعدة جنرالات جدد من دون قبعات يتشكلون من بعض زعماء الأحزاب ورجال المال، وجنودهم المنتفعين والانتهازيين الذين يتوزعون على مؤسسات الجمهورية وجمعيات المجتمع المدني والنقابات، وفي بعض وسائل الإعلام التي استفادت من الريع مقابل تخليها عن مهامها الأساسية!
دولتنا المدنية بمفهوم أصحابها هي دولة وهمية، ينفرد فيها بالسلطة شقيق الرئيس وصديق الرئيس وحزب الرئيس، وتكون فيها السلطة هي الدولة، ويصبح فيها الشعب خادما لأسياده يصفق ويساند فقط، وينفرج على مجتمع تتحالف فيه الرداءة مع المال الفاسد ضد الذكاء والكفاءة، ويزدهر فيه الباطل والظلم والفساد ويزداد فيها التضييق على الحريات لدرجة لم يسبق لها مثيل.
الدولة المدنية على الطريقة الجزائرية اختزلها أصحابها في اقالة الجنرالات، ثم اختراق مؤسسة الجيش واضعاف جهاز المخابرات، وبعدها راحوا يدعون إلى تشكيل جبهة جديدة للالتفاف حول برنامج الرئيس الذي لم يعد في حاجة إلى جبهة من دون برنامج ولا مشروع مجتمع واضح، لكنهم أرادوا تشكيل جبهة لتقوية وتوسيع دائرة المنتفعين والرديئين، وحماية المفسدين و”أصحاب الشكارة” الذين استولوا على كل المواقع وأقصوا الكفاءات والنخبة من مواقع المسؤولية لتسهل عليهم مهمة الاستحواذ على ما تبقى من هذه الدولة
الدولة المدنية الجزائرية في نظر أصحابها هي دولة من دون الجنرال التوفيق، ومن دون جهاز المخابرات الذي حقق في فضائح الفساد، وهي دولة ترتكز على القوة والمال الفاسد والرداءة والولاء الأعمى، ودولة يحكمها ثلاثة أشخاص استحوذوا على كل السلطات، ويسعون الى توريث الحكم بأي شكل من الأشكال حتى ولو اقتضى الامر تكميم كل الأفواه وخنق الحريات وسجن نصف الشعب وتديد وتخويف النصف الأخر!
حفيظ دراجي
نشر في موقع كل شيئ عن الجزائر بتاريخ 19 أكتوبر 2015